حيث الوحدة الشاملة المغبوطة، والسكينة الخالدة، التي لا يكدرها غير هدهدة المياه المنحدرة من فوق الصخور على حصباء الوادي!
فينيقيا، عشتروت، جبيل، بعلبك، حرمون، صنين، الأرز، قاديشا. . . كلها أسماء تفيض شعراً وإلهاماً وتاريخاً، إنها مصدر وحي للأديب لا ينفد، ومورد عذب للفنان لا ينضب، فقل أن تجد شاعراً أو كاتباً شرقياً كان أو غربياً يخلو شعره أو نثره من وحي هذه الأسماء الملهمة، ذلك لأن لبنان في نظر الشعراء والكتاب - الشرقيين منهم والغربيين - (غابات مسحورة تفوح منها روائح معطرة بأنفاس عشتروت وبعل وغيرهما من آلهة الفينيقيين وأبراج وقصور من المرمر والنحاس، وأسود ونمور وظباء وأيائل وصوامع وهياكل وأنبياء وقديسين!)
فهذا (لامرتين) شاعر فرنسا العظيم يزور لبنان ويستلهم أرزه فيوحي إليه بآيته الباقية ما بقي الشعر الفرنسي، وأعني بها (سقوط ملاك). وهذا (رينان) الفيلسوف الشهير يأوي إلى أحد أديرة لبنان ليكتب كتابه الخالد (ابن الإنسان)، وكذلك (شاتوبريان) و (هنري بوردو) صاحب القصة الشهيرة (تحت ظلال الأرز)، وهي قصة واقعية معروفة، بطلها فتى مسلم من طرابلس، وبطلتها فتاة مسيحية من بشري ومسرحها الأرز. . . وللشاعر الإنجليزي (شلي) مأساة شعرية رائعة عن موت (أوزايرس) وبعثه في مدينة (جُبَيل) اللبنانية، وكذلك الشاعر الخالد وليم شكسبير وغيرهما كثيرون
فلبنان شاعر وملهم الشعراء، وأبناء لبنان شعراء بالفطرة، (وكيف لا يكونون شعراء إذا سكنوا لبنان وتكحلت عيونهم ببهاء صنين، وتنشقوا عطر الأزهار المنتشرة في أودية الجبل ووهاده، ونظروا إلى البحر الأزرق والسماء الصافية الأديم، وأشرفوا على تلك القمم المزينة بالمعابد والقباب والأجراس، وتظللوا بظل الأرز الخالد المرتفع في الفضاء كأنه صلاة تصعد إلى العليِّ؟!)
لقد طبع لبنان أهله بطابعه الخاص، ففي أخلاقهم رقة نسيمه وصلابة أرزه ورسوخه، وفي أدبهم ما في لبنان من عذوبة وجمال وسحر وروعة. . . لقد جرى حبه في قلوبهم مجرى الدم، فهذا شاعرهم داود عمون يوصي قبل موته بأن يجعلوا من ثلج لبنان كفنه، وفي ظل الأرز ضريحه: