ولست (إلى حد كبير) أشك في أن هذه الزخرفة الأنيقة في رسم الحروف العربية إنما كانت نتيجة لتحريم تصوير الأشخاص في العهود الأولى. ولكن بحث هذه النقطة ربما يخرج بي بعيداً عن الموضوع.
ويجب ألا ننسى أن العرب لم يدخلوا معهم إلى تلك البلاد أي شيء في شكل فني، وأن الفرس كانت لهم تقاليد فنية ترجع إلى ما يزيد على ألف سنة. ومما يدعو إلى الدهشة أن الإغريق وقد حكموا الفرس فعلا نحو قرنين لم يتركوا فيها أي أثر أدبي، كما انهم لم يتركوا شيئا من هذا في الهند. وكذلك لم يترك فتح الفرس لمصر أي أثر في تلك البلاد. وهكذا استمر الفرس حتى الفتح الإسلامي محتفظين بآدابهم منعزلة تماما عن أي تأثير من غيرهم.
وكانت آداب الفرس محدودة من جهة الانتاج، فلم يكن لديهم عدا بعض الكتب الدينية الا مجموعة من السير والتواريخ كما أنهم ترجموا أمثال بيدبا عن السنسكريتية.
على إن بعض القطع الفهلوية تدلنا على أن الفرس قد أكثروا من الشعر، وربما كانت (المناظرة) ترجع في أصلها إلى الفرس ولكن الأوزان والقوافي العربية كانت أمرا جديدا بالنسبة لهم. وان المرء ليعجب لتلك السرعة التي أخذ بها الفرس هذه الأشياء.
وأريد أن أختتم كلامي بكلمة عما تدين به العربية للفرس. كلنا نعرف أن خلفاء المسلمين في دمشق وبغداد كانوا يدينون للفرس بكل المسائل المتعلقة بالحكم ونظام الملك، ومما يذكر عن أحد الخلفاء الأمويين أنه قال:(أني لأعجب من أمر هؤلاء الفرس: لقد حكموا ألف سنة دون أن يحتاجوا إلينا مرة. بينما نحن لم نستطع مدة المائة سنة التي حكمناها أن نستغني عنهم لحظة).
إن العلم الإسلامي في القرون الأولى كان يدين للإغريق بالمسائل العلمية والفلسفية، ولكنه كان يدين للفرس بما وصل إليه من الآداب الجميلة. وما علينا لكي نفهم أثر الفرس في تلك الثقافة العربية الفخمة إلا أن نستعيد أسماء هؤلاء الشعراء والكتاب المجيدين لنرى عدد من يرجع منهم إلى الفرس من حيث الأصل أو المولد.