للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يسترق القلوب لان تلك الأساليب اقرب إلى النفوس والإفهام من الفصحى لشدة اتصالها بحياة الكافة ولقد كان من أكبر ما عمل على تقويض أركان اللاتينية ظهور كتاب مبدعين في اللغات القومية الأوربية، وقد كانت تلك اللغات في وقت من الأوقات بالنسبة للغة اللاتينية، فقد ظهر دانتي في إيطاليا وكتب روائع قومه بلغته (إلى أن قال) ولكنا لا نخشى إلى العربية الفصحى أن يكون مآلها هو مآل اللاتينية لعدة أسباب:

١ - إن العامية لم تستطع إلى الآن (تأمل) أن تتسامى إلى آفاق الفكر العليا، فإن لم تزد بعد (تأمل) على أن تكون وسيلة للتعبير الساذج والأحاسيس الابتدائية ولم يظهر فيها بعد (تأمل) أمثال النوابغ الذين أنتجوا روائعهم الخالدة بلغاتهم الأوربية الحديثة الدارجة.

٢ - إن الفارق بين العامية والفصحى لم يبلغ شيئاً يقرب من الفارق بين اللغات الأوربية الدارجة وبين اللاتينية، فما زال التفاهم ممكناً في سهولة بين المثقف وغير المثقف بلغة سليمة بسيطة فصحى.

غير أننا لا ينبغي أن تجاهل الخطر الماثل لباقة اللغة العامية، وصلاحيتها كأداة للتعبير الأدبي فهو إن كان اليوم محدوداً فقد يكون غداً أقوى وقد تصبح أقدر على الأداء الأدبي السامي من الفصحى إذا فتن الشباب المثقف بالإنتاج الفكري باللغة العامية، وعملت الأجيال منهم على الارتفاع بها إلى المستوى الأدبي الذي يجعلها لغة فكر وتعبير صحيح.

وأفكر ماذا يكون لو فتن الشباب هذه الفتنه (نعوذ بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن)، وصار في الدنيا لغة شامية ولغة مصرية ولغة عراقية، ونشا في كل واحد منها أدباء وشعراء، كما هي الحال في الفرنسية والإيطالية والإسبانية وان بقيت اللغة الفصحى (كما يريد الأستاذ) لغة القران والعلماء والمساجد والمعاهد العالية، وماذا يصنع إذاً صاحب المطعم الذي كنت آكل فيه آنفاً؟ إنه لا بد له من ترجمان، عارف بهذه اللغات، واقف عليها، متخصص فيها! عالم بدقائقها وسنن أهلها في كلامهم، ليفهم النادل أن الماعون في بغداد هو الطبق في مصر، والصحن في الشام، وأن التشطيف في مصر غسل الوجه واليدين، ولكنه في الشام غسل الـ. . . أعني الاستنجاء، وأن الصمونة في بغداد هي رغيف الخبز الإفرنجي، ويسمى في دمشق الأفرنجوني، والباجيلا الفول والتمن الرز، وأن الـ (هوايه) في العراق، صفه للشيء الكثير، وهي في غوطة دمشق الصفعة على الوجه، وانك إذا

<<  <  ج:
ص:  >  >>