للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين) ألا تفهم منه أن هناك بلداً اسمه (بكة) وأن في هذا البلد بيتاً، وأنه وضع للناس، ثم نفهم الأمر الديني فوق هذا وهو أن هذا البيت مبارك وهدى للعالمين؟ أليس لنا ذلك ونحن لا نستطيع أن نفهم هذا الأمر الديني إلا مع فهم تلك الدلالات؟ بل أجمع العلماء على أن القرآن الكريم فوق هذه الدلالات الثلاث التي تجمع عليها عقول البشر لكل كلام دلالة أخرى سامية هي دلالة الفحوى التي يكون مثلها للنثر الفني أو الشعر البليغ، وأجمعوا على أن هذه الدلالة مرعية قطعاً وإن اختلفوا في أنه هل تقوم على هذه الدلالة أحكام شرعية أم لا؛ إننا إذا حرمنا القرآن الكريم دلالاته الالتزامية وهي التي تستنتج من الكلام فقد حرمناه أخص المزايا العقلية لكل كلام وليس يملك هذا الحرمان أحد، إنما يدعيه من حرم قواعد العقل وخرج من ميدان التفكير، وإذا كانت الحقائق العلمية التي بنى عليها الأستاذ (خلف الله) رسالته من مثل مقاله هذا فويل للعلم وويل للعلماء
ويدعي الأستاذ (خلف الله) أن الأستاذ (محمد عبده) قد قال بهذا القول فأي قول هو هذا الذي قال به الأستاذ الإمام؟ أن كلام الأستاذ محمد عبده مثل كلام كل العلماء أن القرآن الكريم ليس كتاباً أنزل للتأريخ وضبط الوقائع وترتيب الحوادث التاريخية بعضها على بعض ولكنه بالإجماع يستخدم التاريخ ويقص من هذا التاريخ حقائق واقعة ثابتة مرتباً بعضها على بعض ترتيباً لا استنساخ فيه كما يستنتج المؤرخ ولكن ترتيب الحق والواقع وينزل بذلك الواقع المرتب ترتيب الحقائق لهداية الناس وإرشادهم إلى الخير والفلاح
فالقرآن يخالف كتب التاريخ في أمور ويوافقها في أمور؛ فالمؤرخ قديري من واجبه أن يتتبع تفاصيل الواقعة: من الأسماء والزمان والمكان والأحداث وتفاصيلها لأن هذا كله قد يعينه على استنتاج الحكم التاريخي الذي يحكم به على الواقعة أو يشبع به نهم العواطف الكثيرة المختلفة من قراءة التاريخي؛ أما القرآن الكريم فقد لا يعنيه بعض هذا لأنه لا يستنتج الأحكام التاريخية ولكنه الحكم الفيصل فيها؛ فقد لا تعنيه الأسماء مثلاً فيقول:(قتل أصحاب الأخدود) لأن العبرة التي تترتب على القصة أي الحكم التاريخي لا يتوقف على أسماء هؤلاء الناس، وليس له بأسمائهم صلة، وقد لا يهتم القرآن الكريم بالزمان فيذكر قصة (يوسف) عليه السلام وفيها اسم يوسف والمكان الذي كانت فيه القصة ولا يذكر