ولكن. . . فيم العجب، ولو أن زوجها نفسه أحيل على المعاش، كما يقول أصحاب الديوان، وجاء بعد يوم واحد إلى نفس الديوان، لتنكر له من كانوا من قبل يرجون مودته، ولحياه من يحييه، وكأنما يريد أن يفهمه أنه يتفضل عليه بهذه التحية، فكيف وقد طواه الموت؟!
بهذا حدثتني نفسي وأنا أنظر إلى هذه التي يغطي السواد جسدها كلها، فلا يُرى إلا وجهها ويداها، والتي كنت أتخيل أن ما يطرأ على خاطري من هذه المعاني هو عين ما كان يطرأ على خاطرها في تلك اللحظة. . .
ودخلت بعد حين غانية أخرى في زينتها ودلها وألوانها، تخطو خطوات رشيقة سريعة وتتثنى وتتخلج كأنما تمشي لا برجليها وحدهما، وإنما بهيكلها كله، وقد فاح في الحجرة عطورها، وارتفع بالتحية صوتها، وهي تقول إنها تريد أن تقابل سعادة البك. . .
. . . وجلست هذه الزهرة الناضرة، وقد هش لها مدير المكتب، وأقبل عليها يحدثها حتى ما كان يعي تحيات القادمين ولا نداء الموظفين، ولا يفطن إلى ما يلقونه إليه من أوراق!. . . حتى الجرس نفسه - جرس الرئيس المهيب - كان يتوانى في إجابته، ثم يهرول ليعود بعد لحظة يصور لمحدثه مبلغ ما لدى رئيسه من أوراق ينظر فيها، وذلك كي يجعل له عليها فضل الحصول لها على الإذن. . .
ودخل الحجرة بعض الخبثاء من الموظفين يتظاهرون أنهم قدموا لعمل. . . فكانت تناديهم بأسمائهم فيسرعون إليها فتسأل الواحد منهم عما تم في مسألتها. . . فيحدثها في تظرف واهتمام، ويصف لها مقدار ما يبذل من جهد وعناية في هذا الأمر، وهي تخرج الكلام من فمها تارة ومن أنفها تارة، ولا تكاد تستقر في موضعها وتهددهم ضاحكة أنها سوف تشكوهم إلى سعادة البك وأنهم ليؤكدون لها في ميوعة وخبث أنهم (في الخدمة)، وأن (الهانم) لن تعود بعد يومين إلا وقد انتهى كل شئ. . . وتنظر إلى هذا فتقول: يا لئيم! وإلى ذاك فتقول: يا نصاب! وإلى ثالثهم فتقول: يا مكير! وتغمز بعينيها وتضحك. . . ويتكلمون بالإحداق، أو يتغامزون بالأيدي، وينصرفون ليقولوا خارج الحجرة ما يشاءون!
وتنظر المحزونة إليها فيتضاعف حزنها، وإن صاحب القلب المحزون ليعرف أقصى حزنه حين يجد نفسه وحده بين قوم لاهين ضاحكين! وأنظر إلى هذه الثكلى لا يعنى بها أحد، ولا