الإيمان، فالرجل غليظ وحبله أغلظ، وما تعلمت الملاكمة، أو كانت لي حتى بمخاطبة الغلاظ الجهال طاقة. . . ولم يكن على مقربة مني شرطي استعينه. . . شرطي؟ والله لو وجد لسخر مني أن أدعوه إلى مؤاخذة الرجل على صنعه، ولظن بعقلي الظنون. . .
وأعيذك أيها القارئ أن تعجب أن يتحرك قلبي لمثل هذا المنظر، فما أحب إلا أن تكون رفيقاً، وإذا أنت ترفقت بالعجول كنت حرياً أن تترفق ببني آدم. . . ولقد تداعى لهذا المنظر الأليم في ذهني معنى. . . بل معان. . . فكم من الآدميين من يرتبطون هكذا على خسف ويسقطون من كلال وإعياء، وعلى جنوبهم وظهورهم تهوي أيد خفية بما هو أقسى من الحبل المعقد الغليظ. . . أجل كم من آدمي في الأصفاد والأغلال وإن لم تعض بساقيه سلسلة، أو يخنق عنقه غل. . . كم من البشر من يساقون كما تساق هذه العجول ليكدحوا في لظى الصيف وفي زمهرير الشتاء كي يسعد فريق مثلهم من بني آدم بطيبات الحياة، وأي فرق لعمري بين هذا وبين الرق؟!
آه لقلبي. . . وأف لمنظاري. . . يا عجباً! ما أسرع ما تمثل لي هذا المعنى الذي طاف بخاطري، فإذا هو صورة مجسدة تدب على الأرض، فهاهو ذا عسكري غليظ شديد يسوق أمامه رهطاً من الغلمان، قد ربط ذيل هذا في ذيل ذاك، أو يد هذا في يد جاره، إن لم يكن لهما ذيلان يربطان، وقد التقطهم جميعاً من الشارع، وكان ذلك في نفس الميدان من مدخله الجنوبي، ولا بد أن قطيع العجول قد مر برهط الصبية قبل أن تقع عيني عليهم بدقيقتين أو ثلاث!
وأخذ العسكري الغليظ الفظيع يهوي بكفه الثقيلة المعقدة بما يتحلى به من خواتم غليظة على قفا هذا الصبي الهزيل مرة، وعلى قفا ذاك المريض النحيل مرة، والويل لمن يلتفت وراءه من الصبية؛ وكان هؤلاء المساكين كلما سمعوا وقع الكف الثقيلة المعقدة على قفا أحدهم، رفعوا أكتافهم ونزلوا برؤوسهم ليخفوا أقفيتهم، والرعب ملء جسومهم، وحسبهم ما هم فيه من جوع وعري ومرض وشقاء. . .
ولم أطق صبراً فدنوت من هذا العسكري العاتي، فليس في يده حبل أخاف منه، وإنه لحري أن يغره تدخلي وجرأتي فيحسبني من رجال النيابة مثلاً أو من أولي الجاه على أي حال وقلت في لهجة الآمر لا في لهجة المستفهم (لا تضرب هؤلاء المساكين يا شاويش).