وكان في مصر، بل في القاهرة نفسها العمارة التي تشتمل على خمس عشرة طبقة، والأكواخ التي لا شباك لها ولا ماء فيها ولا مرحاض، وفيها أفخم السيارات تسير بجانب عربات الكارو، تحمل أهل القاهرة من حي إلى حي، وفيها شارع فؤاد وشارع سليمان، وفيها الزمالك وجاردن سيتي، وفيها مقابل ذلك زين العابدين والدراسة وبولاق، وفيها فندق شبرد ووراء حديقته أزقة مسدودة لا تراها الشمس، ولا يمر منها الهواء، ولا ينيرها الكهرباء، ولا تعرف الطريق إليها مصلحة التنظيم. . .
إن الناس يتفاوتون في بلدنا، وفي بلاد الناس كلها، ففيهم الغني والفقير، والعالم والجاهل، وعندنا العمارات الكبيرة، والدور الحقيرة، ولكن المسافة بين عالينا ونازلنا قصيرة متحملة فليس في دمشق كلها عمارة كالـ (ايموبليا) ولا كنصفها، أن أعلى عمارة فيها في ست طبقات. ولكن ليس في دمشق أيضاً، بيوت كبيوت مصر القديمة أو عشش الترجمان. . .
وعندنا فقراء، ولكن فقراءنا لهم ثياب نظيفة تسترهم، وأحذية تحملهم، وبيوت تكنهم، وعندنا مالكون للأرض، ولكن الناس يملكون معهم، ليسوا عبيداً لهم، ولا إجراء عندهم، ما عندنا هذه (الإقطاعية. . .) إلا في حماة وأمثالها، وهي مناطق محدودة، وسائر الأرض مقسمة بين الناس، يملك الواحد منهم ربع الفدان فما فوقه، ولا يرى نفسه دون مالك الآلاف، ولا يذل له ولا يرى له عليه فضلا.
لذلك يعجب الشاي عندما يقدم مصر، ويرى هذا التفاوت فيها، ويسأل من أين جاء؟
وثانيهما: السؤال عن الكتاب والعلماء، لماذا لا يدعون إلى تخليص البلد من هذا الداء العياء، وتعديل كفتى الميزان وتحقيق طبيعة العرب في المساواة، ومقصد الإسلام في العدالة لا أريد المساواة المطلقة التي لا تبقى غنياً ولا فقيراً، فهذا ما لا يكون ولا ترضاه سنن الكون، ولا طبائع الأشياء. لا يكون إلا في أذهان الفلاسفة والشعراء، وأصحاب الأغراض من الدعاة، يشعبذون به على ألا، ويتخذونه سلما إلى غاياتهم، ووسيلة إلى أغراضهم، ولكن أريد المساواة المعقولة، التي لا ينزل بها إنسان إلى منزلة البهيمية في طعامه وشرابه ومسكنه، ولا يرتقى إنسان إلى منزلة الألوهية، يدعيها كذباً وبهتاناً كما ادعاها فرعون من قبل، وأن يكفل لكل مصري (مهما كانت مهنته، وكان عمله) طعامه وشرابه وكسوته ومسكنه، كما يليق بالإنسان أن يأكل ويشرب ويلبس ويسكن، كما يليق