رأيت وجهاً كاسفاً حزيناً في غير نقمة، منزوياً في غير جفوة مستسلماً لما به لا يبالي ما سيصير، لأنه قد بالى كثيراً بما قد صار.
قلت في نفسي لأول وهلة: أهذا هو جيد بشير الحياة؟ أيكتب اليوم ما كتبه في قوت الأرض قبل سبع وأربعين سنة؟
وأياً ما كان كلامه المنظور منه اليوم، فإن الرجل لم ينقض نفسه، ولم يخل في خواتيم القرن التاسع عشر من نظر إلى ما عسى أن يصير إليه في أنصاف القرن العشرين.
إنه لم ينس رحمة الموت يوم أشاد بنعمة الحياة، لأنه قال في ذلك الكتاب أن الموت يعودنا لقاءه كلما اقتربنا منه (وإنه يغطي يديه بقفاز ناعم حين يأتي إلينا، ولا يكظم أنفاسنا قبل أن يعودنا الكظيمة. والعالم الذي ينتزعنا منه يكون في موعد النزع قد أضاع وضاحته، ومأنسه، وقد أضاع من أجل ذلك حقيقته، وأصبح أمامنا ناصل اللون لا يبعث فراقه فينا ألماً ولا ندامة)
لقد عملت الخمس والسبعون عملها في بشير الحياة، وهو الآن يعيش في العالم الناصل، الذي نظر إليه من بعيد، وهو في الثامنة والعشرين.
ولكن السن وحدها فيما نعتقد لم تفعل كل هذه الأفاعيل.
فمثل أندريه جيد خليق أن يصطدم بالميئسات وهو في ريعان الشباب، لأنه يدين (بالعيشة الاعتباطية) أو العيشة بغير داع ولا مسوغ لعمل من الأعمال كما بشر بها في كتب صباه، ولأنه يدين مع ذلك بالصراحة التي لا تعرف الحدود، ولا تطيق ثقلة الرقابة الاجتماعية في شأن من شؤون الفكر، أو الفن، أو الأخلاق. فلا جرم تسلمه (العيشة الاعتباطية) والصراحة الجامحة، إلى الغم والخيبة، قبل نصول العالم في عينيه من ألوانه الزاهيات.
أي صراحة لا تحجم من السخط والحرمان، ولا تحجم مما هو أرهب للنفس من كل سخط وحرمان، وهما الخزي والسخرية.
وأعجب ما فيها أنها صراحة لا تنشد غرضاً من الأغراض، ولا تتجه إلى هدف من الأهداف، غير التبرم بالكتمان، والأنفة من تسليمه لسلطان لا يؤمن به ولا يرى ما يراه.
ذهب إلى مستعمرة (الكونغو) وعاد منها في سنة ١٩٢٨ فكانت حملته على الاستعمار