والتفت على حرب أهلية ثالثة بين حوذي أوقف جواديه الهزيلين، ووثب من عربته التي شهدت فيها أحسب القاهرة في عهد إسماعيل، وراح يصخب في لهجة الحوذية ونغمتهم، ويطلب إلى الراكب بقية حقه، وإلا فمن أين يأكل، ومن أين تأكل الخيل، وهو يستغيث الله والمسلمين، ويخوف هذا الذي لا يريد أن يدفع عاقبة الظالمين، وقد دارت حولهما حلقة من المتفرجين، والحوذي يتدفق بلاغة، إذ يصف الغلاء وما صنع بالناس، وكأن في فمه (ميكروفون). .
ومشيت ضائق الصدر، حيران الخطى، ملء نفسي الألم مما أشهد من مخازي مجتمعنا العظيم، فإذا أنا تلقاء عتل يستوقفني قل أن رأيت مثله ضخامة وطولاً، له عنق هو وحده أضخم من ذلك الجذع الذي كان يزحف على الأرض، أما بدنه فيضل البصر في ضواحيه، ومد إلي ذلك المارد يداً تتسع قبضتها لتتلقى حملاً أو غلاماً، وقال فيغير تلعثم أو تردد:(يابيه. . . أنا جوعان. . . عاوز حق لقمة)! وحرت والله بين أن أضحك فأسري عن نفسي بعض ما بها، أو أن أصرخ في وجهه علي أنفس عني بعض همي وغلبتني الثانية فقلت: اغرب عني، فلن يشبعك كل ما في جيبي، إنك تبني عمارة وحدك، فهل يصح أن تطلب لقمة!
وبعد، فيا حكومة. . . يا وزارة الشؤون الاجتماعية. . . يا جماعات البر والإحسان. . . يا دعاة الإصلاح. . . يا من تغارون على كرامة وطنكم وسمعة عاصمتكم. . . الغوث. . . الغوث. . . أن جميع ما رأيته في زوايا الطريق في ليلة واحدة، وعلى أبعاد متقاربة في أهم بقاع القاهرة العظيمة مما بينته وكثيراً مثله مما لم أبين يصرخ صراخاً عالياً لمن كان له سمع أن هذا عيب. . . اجعلوها من باب الترف، فأزيلوا من الطرقات هذا الأذى، فما أطمع أن تجعلوها من الإنسانية!