احتملوا، فجمع الوزراء والقواد وأهل الشورى وأخذوا يدبرون للخروج من هذه الشدة، فأجمعوا على أن الأمر أصبح لا يطاق، وأن التمادي في الدفاع لا يجدي بعد أن أخذ السكان يتساقطون إعياء وجوعاً، وأن الحكمة تقضي بالتماس طريق آخر للخروج من هذا الكرب، ثم اتفقوا على أن خير الطرق في ذلك هي أن يفاوضوا الملك فرننادو على وضع يحتمل وشروط للصلح يمكن أداؤها. .
فانتفض القائد موسى في مكانه ونهض قائلاً: ما هذا الذي أنتم فيه أيها القوم؟! وما هذا الرأي الذي ترون!! أجل! أن الجوع يعضنا بنابه الزرق، وانه يودي بفلذات أكبادنا، ولكن في شرعة الكرامة لا يزال لدينا الكثير! إننا لم نأكل القطط والكلاب والعشب والحطب بعد، وان الجوع في أسوأ حال أشرف وأكرم من الاستعباد على أي حال، أن الحر يحتمل أن يرى أطفاله وعشيرته يموتون جوعاً، وأن يواريهم التراب بيده ثم لا يذرف عليهم دمعة واحدة، ولكنه لا يحتمل أبداً أن يرى أبناءه وعشيرته أرقاء للغاصبين، وأن يرى زوجاته وبناته نهباً للفاتحين، وأن يرى نفسه غريباً طريداً في مرتع طفولته وصباه وموطن شبابه وشيخوخته، فاللهم لا تدمني حتى أعاني تلك الحال.
فعاد القوم يتشاورون، ولكنهم عادوا فأجمعوا على ما كانوا فيه، وقال قائلهم: إننا إذا دخلنا في مفاوضة مع الملك فرننادو وجرينا معه على طريقة التفاهم والمودة فأنه لا يشق علينا، لأننا أصبحنا بإزئه لا نملك حولا ولا قوة، وإنما حاجته إلى الملك لا إلى ظلم الناس والقسوة عليهم. فلنرسل إليه رسولاً يفاوضه على شروط التسليم ولننظر ما يأتي به الرسول. .
قال موسى: كيف تقولون إننا لا نملك حولا ولا قوة؟! كلا: إننا نملك الموت في سبيل الشرف، وما هذه المفاوضة التي تريدونها إلا إظهار للضعف ودعوة إلى التخاذل وإعلان للتسليم والاستسلام وثقوا إنكم لن تسمعوا في هذه المفاوضة من الملك فرننادو إلا كلمة القوي للضعيف. .
ضاعت كلمات القائد موسى صرخة في واد ونفخة في رماد، وما كان يستطيع أن يحرك النفوس الهامدة وأن ينفخ الحياة في الأموات، فتركه الموت لحماسته، وانصرفوا إلى ما اتفقوا عليه من الرأي، فأرسلوا بالوزير أبي القاسم عبد الملك إلى مفاوضة الملك فرننادو