وأن الثقافة والعلم وسهولة اتصال الأمم بعضها ببعض، كل ذلك لم يغير من شيئاً من عقائد الصليبية الأولى في هذا الشرق العربي، وكل ذلك لم ينفع شيئاً في نزع السم الذي اختلط بالدماء وجرى في العروق مع نسمات الهواء ومضغات الغذاء. وإنه لولا هذا الداء القديم، وهذه العلة المستعصية، لما ارتضت هذه الدول أن تبدي كل هذه الجرأة على الحق في مشكلة فلسطين، بل لوقفت كما وقف من قبل في مسألة دانزيج وغيرها مناصرة لحق الناس في الحرية كما تزعم. هذا معنى لا يفوت عربياً مسلماً كان أو نصرانياً، لأن هذه الدول تتصرف بأحقاد جاهلة عمياء، لا ببصر وتمييز وعدل.
وغاب عن هذه الدول جميعاً شيء واحد، هو أن هذه الأمم التي يصبون عليها أحقادهم المبذولة وسخائهم العتيقة، قد لقيت من قبل أشد مما تلقى اليوم، ومع ذلك فقد استطاعت أن تخرج على الدنيا ظافرة نبيلة لا تحمل حقداً ولا ضغناً، وانتشلت الحضارة الإنسانية من أوحال الجهل العميق الذي كانت تعيش فيه أوربا وأمريكا وروسيا، ورفعت المنار لكل مهتد حتى اهتدى.
أن هذه العرب لا تنام على ذل أبداً، فلتعلم هذا روسيا ولتعلمه بريطانيا، ولتعلمه أمريكا، وليعلمه الأفاقون من اليهود. لقد نادت فلسطين غير نيام، نادت أيقاظاً يحملون بين ضلوعهم تلك الشعلة الخالدة في تأريخ الإنسانية، والتي نحن القوام عليها والقائمون بها، والتي نحن لحاملوها حيثما سرنا في الأرض - شعلة الأيمان بالله الواحد القهار - إن كل سلاح، سلاح مفلول إذا لقي سلاحنا، لأننا لا نقاتل بالتدمير والخراب، بل بالتعمير والإنشاء ورد الحقوق على أهلها وأن كانون قد ظلمونا ونكلوا بنا من قبل. ولتعلم هذه الأمم العدو لنا جميعاً أن المعجزة التي كانت يوماً ما، سوف تكون مرة أخرى يوم ننبعث من ظلماء هذه الحوادث سراعاً إلى نجدة أمنا فلسطين، فتنبثق الأرض عن جنود الله القدماء:
عن كل أروَعَ ترتاعُ المنونُ له ... إذا تجرد، لا نِكسٌ ولا جحِد
يكاد حين يلاقي القِرْن من حنَق ... قبل السَّنان على حوْبائه يرِدُ
قلوا، ولكنهم طابوا، وأنجدهم ... جيش من الصبر لا يفنى له عدد
إذا رأوْا للمنايا عارضاً لبسوا ... من اليقين دُرُوعاً مالها زَرَدُ
هذه ليست خطابة ولا حماسة أيتها الأمم، بل هي الحق، وهي عادتنا وعادة الله فينا، والله