المقدس وينقيها مما علق بها من أوضار ورسب في قاعها من أقذار حتى تراها تعيش في عالم الروحاني الذي يشيع فيه الحب والخير والجمال، فنعيمه يقوم بمهمات ثلاث: مهمة الكاهن، ومهمة الفيلسوف، ومهمة الشاعر!. .
ليقل الناس ما شاءوا فلست أؤمن إلا بوجداني ولست أفهم الحياة والفن إلا به وعلى ضوئه، وقد هداني وجداني إلى حقيقة لا أتزحزح عنها قيد شعرة وهي أن نعيمه فيه نبوة، ولكنها من نوع جديد، وآثار الأدبية هي (امتداد) لأنبياء العهد القديم، أما الذين لا يرون إلا ما سطر على القرطاس فلم يكتب لهم هذا الكلام. وما دامت الفنون تقاس بمقدار ما تتصل بالنفوس، والأدب أحد تلك الفنون - ولعله أسماها جميعاً - فنعيمه من أشد الشعراء اتصالاً بالنفوس وأعلقهم بالأرواح. . . إنه من أولئك الشعراء والكتاب الذين يرتفعون بالإنسان إلى آفاق الروح الكلي ويمتزجون به امتزاج الليل بالنهار والروح بالجسد، فما قرأته مرة إلا أحسست بأنني أقرب ما أكون إلى الله وأبعد ما أكون عن (التراب)!
وهذا لعمري هو الفرق بين أدب السماء وأدب الغرائز والأحقاد. إن من ينعم النظر في شعر نعيمه ونثره يجد انه يهدف إلى غاية هي غاية الغايات، أي نشر المحبة والخير والسلام بين الناس، تلك المحبة التي طالما سعى إليها الأنبياء والشعراء والفلاسفة منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا، وسوف يظلون يسعون إليها ما دام الإنسان إنساناً، وما دامت الأرض أرضاً، وفي سعيهم المتواصل هذا سعادتهم وسعادة البشرية، فالسعي إلى الكمال تطور وتجديد، أما الكمال فوقوف وجمود كما يقول عبقري ألمانيا الأعظم (جيتي).
ليست شاعرية نعيمه من تلك الشاعريات التي تعتمد على بلاغة الألفاظ ورنين القوافي وإنما هي شاعرية مجنحة تحلق بين الأرض والسماء، قوامها الروح ولحمتها وسداها الأفكار السامية والتأملات العميقة. في شعر نعيمه صوفية حالمة وحيرة وتساؤل وشك وإيمان، فيه ثورة وتمرد واستسلام، فيه امتزاج بالكون، فيه صلوات وابتهالات تحمل في تضاعيفها النور والطمأنينة، في شعر نعيمه هيمنة النسيم وأنداء الربيع!. . .
عندما نشبت الحرب العالمية الأولى حمل نعيمه البندقية في جيش الولايات المتحدة فرأى بعينيه أشلاء إخوانه كيف تمزقها القنابل، كما سمع بأذنيه أنين الجرحى وصراخهم الذي يصم الآذان من ظلم الإنسان ووحشيته فانطبع في نفسه كره شديد للقوة الغاشمة والأقوياء