كنت البك الناظر ما كنت إلا مفسد المدرسة بنصف هذا التوسل بل بثلثه. . . ولكن ناظرنا لم يشأ أن يستجيب له وخرج الرجل وهو يكاد يبكي. . .
وما كدت أرثي لحال الناظر مما يلاقي من ضيق حتى طرق الباب قادم آخر ودخل فإذا برجل يدلف للسبعين فيما يبدو لعيني، حسن الهندام بادي الوجاهة يتوكأ على عصا ولكنه يخطو في نشاط وإن كان في مشيته عرج، وقال قبل أن يصل إلى المكتب: أعذرني يا سعادة البك إذ أدخل بعصاي فساقي مكسورة في حادث سيارة. . وجلس وهو يتنفس في عسر ويحاول أن يجد ريقاً في فمه ليبتلعه فلا يكاد إلا في مشقة؛ ولمحت في عينيه الألم الممض وتعرفت في وجهه حيرة ذي الكبرياء بين كبرياء نفسه وبين ما تفرضه ظروف الحياة؛ واختلجت شفتا الرجل كأنما يجد عسراً في إخراج الكلام، ثم تهد تنهدة طويلة، وقال وإن كلامه ليتقطع بتقطع نفسه: أنا والد فلان وما جئت لأدافع عنه فأبني بطال. . . بطال. . . وإنما أردت أن أسألكم وأنتم أطباء الأرواح ماذا أصنع لعلاجه. لقد ضربته الآن حتى بكيت وبكى، وليست لي حيلة فيه وهو ابن هذه المدرسة طيلة خمس سنوات. وتوقف الرجل ومد يداً معروقة ناحلة شاحبة وهو يحك سبابتها بوسطاها إذ يشير بهما، وبلع شيئاً من ريقه في عسر وتنهد يستجمع نفسه وقال أريد أن أقول شيئاً آخر وإن لم يكن في الموضوع. . ليس لي ولد غير هذا ولكن لي بنات ستاً. . . وهذا موضع أملي وأنا رجل أودع الدنيا وخدمت الأمة مهندساً عشرات السنين. . .
ونظرت فإذا الرجل يحبس دمعه جاهداً وإذ العرق يلمح في جبينه وقد أزاح بيده طربوشه عنه وصار يدق بكفه على قبضة عصاه دقات ويتأوه في صوت خافت، وتدلت شفته السفلى فكشفت عن ثناياه الذهبية التي لاءمت صفرتها صفرة خديه الذابلين الغائرين، والتفت إلى البك الناظر فإذا وجهه رثاء كله لحال الرجل حتى لقد ظننته قبل ابنه؛ ولكنه أشار إلي وقال للرجل: هذا أستاذه فاسمع رأيه فيه. . . وحرت والله ماذا أصنع وما أستطيع الكذب. . . وفطن الرجل إلى حيرتي وإنه لذو فطنة وكياسة فقال أنا أعرف كل شيء وما جئت مدافعاً كما ذكرت وإنما عدمت الحيلة فأعينوني على أمري. وكدت لعمر الله أبكي وأعود فأقول لو أنني البك الناظر لغفرت لهذا التلميذ ذنوبه الماضية وذنوب عام قادم معها؛ أقول ذلك على علم بأنه خروج على ما يسمونه قواعد التربية، ولكن ما الحيلة