انقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك) وأخذ الشيخ إسماعيل يرتل هذه السورة ويرددها وقد أفرغ فيها كل فنه وبلغ صوته فيها غاية حلاوته والناس يهزون رؤوسهم في تخضع ونشوة معاً ويودون لو ظلوا وقوفاً يستمعون حتى ينصدع على الأفق عامود الصباح. . .
(الله أكبر. . . بسم الله الرحمن الرحيم. . . والضحى والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى).
ما كاد الشيخ يقف عند هذا الوقف حتى انتزع الناس الزهور من الباقات وأمطروه بها من كل جانب وهو في الطابق الأوسط وتشققت حناجرهم بالهتاف، حتى كأنما طاف بهم طائف من الجنون وقال أحدهم (والله هذا رجل أنسرق من الجنة).
وختم الشيخ تلاوته وأخذ الناس ينصرفون وملء نفوسهم البهجة من هذا الافتتاح الموفق، ونظرت إلى المتاجر الأخرى فطاف برأسي معنى لعله طاف برؤوس غيري من الناس، وذلك أن المتاجر الأخرى على طوارى الشارع باتت تحس هذه الليلة ذل الغربة، وكأنما كان هذا القرآن فتحاً في هذا الحي الإفرنجي الذي ما شهدنا فيه مثل هذا من قبل، وكأنما كان متجر الطرابيشي غزواً يباركه كتاب الله. . . وشعرت بالعزة الوطنية حق العزة وأحسست لأول مرة في هذا الشارع أن الدار داري والأهل أهلي والوطن وطني. . . وأغتلى خيالي وأنا الشاعر الذي يطير به الخيال كل مطير، فخيل إلي أن الغافقي لم يرتد عن بواتييه، وأني أسمع القرآن لا في شارع فؤاد ولا في القاهرة ولكن على ضفة السين!