على الناس منعدمة. فكان يقع على الواحد من أصدقائه وهو مرح الصدر، غائم الخاطر يريد أن يسمعه إحدى قصائده. فيعتذر صاحبه من عدم إمكانه سماعها. فيناله من ذلك هم كبير ويقول في نفسه:
- إن الناس عيت عقولهم عن فهم أشعاري، وفيها تلك الالتماعات الذهنية التي لا تنقاد إلا لذهن جبار! وإني عهدتهم يتهافتون على ذلك الرخيص من الأدب الذي تطالعهم به الصحف والمجلات. . . أما أنت يا محمد؛ فإن في عنقك رسالة ينبغي أن تؤديها، وإن أصحاب الرسالات ليلاقون من عنت الناس وإجحافهم ما لا قبل لغيرهم به. فلتثابر وإنك واصل بإذن الله. . .
. . . ونهض من فراشه في رأد الضحى. . . وأمر يده بين الوسائد وأخرج القرطاس الذي سطر عليه قصيدته (اللحن الإلهي) ونادى اخته، فما إن أقبلت حتى قال لها:
- اجلسي فسألقي عليك قصيدتي الجديدة (اللحن الإلهي). . . وكانت الفتاة قد تعياها الجهد من تدبير البيت. وكان لا يزال أمامها عمل شاق متواصل. فأجابته في لهجة يشيع فيها الغضب المستور: إنني جد متعبة ولا قبل في بسماع قصائدك
ومضت عنه إلى طهي الطعام وتنظيف الصحاف. وبقي هو في فراشه بعض الوقت تتردد الحسرة بين جنبيه وتمتم
- حتى أنت يا شقيقتي تبالغين في تحقير شعري وامتهانه. . .
. . . وكانوا قد أعدوا له طعام الإفطار. فما قاربه، بل ارتدى ملابسه، وانطلق إلى الطريق كمن ركبه الشيطان. وكان النهار قد انتصف، وغامت السماء، وآذنت بإمطار. . .
ودرج في الطريق وهو ذاهل لا يدري أين تقوده قدماه. . .
ونسى نفسه فراح يتغنى بقصيدته (اللحن الإلهي) وخيل إليه أن الطبيعة أطرقت تنصت إليه! لقد عدم في الناس من يستمع إليه. فليحك إلى الطبيعة شعره وليبثها آلامه. . . الطبيعة. . . إنها أخته الخليصة، فليس فيها مكر الناس وليس فيها خبثهم! وهطل المطر مدراراً بينما تابع هو طريقه غير حافل حتى لاح له مقهى على رجع البصر فخف إليه!
وتهالك على المقعد في إعياء، وراح يرقب حبات البرد وهي تساقط على الأرض في ثورة وغضب. . .