خطيب يتكلم بصوت جهوري، وذكرت أنهم كانوا يصغون إليه هادئين صامتين فأحببت أن أقلد هذا الخطيب لعلي أظفر بهدوء الطلاب وصمتهم. فصعدت المنبر وانطلقت أتكلم بصوت جهوري:(أيها الطلاب!. . .) ولم أكد أنبس بأول كلمة حتى صمتوا وتوجهوا إلي بأنظارهم وأفكارهم. . . يا للمعجزة!. . . لقد نجحت طريقتي على ما فيها من سخف!. . لقد عرفت لأول مرة أن النجاح في الحياة قد تقوم على السخف والتدجيل أكثر من يقوم على العبقرية. . . لقد توارت التعاليم التربوية أمام التعاليم السوقية، وتلاشت الأفكار المثالية أمام الأفكار الصحفية، واصطنع السخف ما لم يستطع العقل له صنعاً.
وراحت الكلمات تنبعث من فمي كالرعد والأطفال صامتون. وما أدري اصمتوا متأثرين ببلاغتي، أم سكتوا دهشين لرؤيتي أتكلم بكلام مستغلق لا معنى له. ومهما يكن في الأمر من شيء فقد أغراني هدوءهم فاسترسلت في الخطابة حتى نسيت أني في الصف وتملكني الحماس فرحت أقرع الطاولة بيدي. . . ويبدو أن صدى صوتي قد ملأ أرجاء المدرسة فبادر المعلمون لاستطلاع الخبر ولكنهم لم يجسروا على فتح الباب وإنما لبثوا خلفه يسترقون السمع.
ولقد أنصتوا وأنصتوا ولكن لم يفهموا شيئاً. وأني لهم أن يفهموا كلاماً مزج الأدب بالتربية، وخلط العلم بالفن، فأصبح لا تربط بين أجزائه رابطة، ولا تقوم بين عناصره علاقة. . . إني لم أترك كلمة احفظها (لوليم جيمس) إلا أتيت عليها. ولم أدع بيتاً أرويه للمتنبي إلا ذكرته. ولقد كان لقوانين الكيمياء والفيزياء النصيب الأوفى من محاضرتي فإني كنت لا أزال حديث العهد بها أحفظها عن ظهر قلب. . .
وبينا أنا عاكف على إغراق طلابي في بحار العلم والحكمة، رفع أحدهم إصبعه فما كان مني إلا أن صحت به (ما لك؟) فمال بإصبعه وبعينه نحو الباب. . . فالتفت. . . ويا لهول ما رأيت. ويا للخجل!. . إنهم المعلمون.
وماتت الكلمات على شفتي فجأة. . . لقد صحوت من النشوة التي كانت تعتادني. ونزلت من عالم الوهم إلى عالم الحقيقة المرة. . . يا إلهي أين كنت؟. . .
وبادرني أحد الزملاء قائلاً:(لقد انتهى الدرس) فأمرت الطلاب بالخروج من الصف ثم انضممت إلى المعلمين ولم أترك لهم مجال النقد وإنما رحت أوهمهم بأن ما قمت به إن هو