ولكنه لم يتزوج ولم يجن على أحد فقد وهبته العناية بصيرة بعيدة المرمى فأنف أن تتصل حياته بنسل، ولمح النفاق والجحود والنميمة ونكران الجميل والسخرية من خلال البسمات والضحكات والبشاشة الكاذبة والكلمات المعسولة والتبذل في ذكر الحب والإخلاص والوفاء، فتزعزعت عقيدته في دينه لأنه أمسى قوة تواطأت مع السلطان المطلق ومن حوله من السادات وامتنع عليها أن تسلخ الأيمان عن هذه المظالم.
فأنكرها وأنكر الأيمان ثم تزعزع اعتقاده في الإنسانية والمجتمع بعنف لم يعهده وأحس في نفسه بنصل قاطع لا شفاء لجرحه وهو الاحتقار لكل ما يحيط به. لقد أحس الهارب بالاحتقار نحو المال والحب والمرأة التي أحبها حيناً وأحبته طويلاً ونحو القاهرة التي خنقت العدل وأحيت الظلم والمنافقين والأوغاد والضعفاء. وقد حاولت تلك التي أحبته (أينوبيا) أن تستل منه شعور الاحتقار نحو الدنيا والحكم عليها بالصغار، فلم تستطع، لأن أقوالها وأفعالها كانت تزيد إيمانه في صحة حكمه عليها وعليهم. وبعد أن كان يؤمن بنفسه أمسى لا يؤمن بشيء فأخذ يبكي أحلامه وأمانيه العاثرة وهو يرى بعيني رأسه رجال المادة والقوة والملذات الجشعة متربصين على ركام الإنسانية ولا هم أذلها الحرص رجال على أفواهها الجوع ورعي قلوبها الاحتياج والشقاء وتكشفت له الحياة عن بعض حقيقتها فها هو الإنسان يستمتع بحواسه ولديه من الذهب والورق ما يستمد منه العظمة الكاذبة بقدر ما يملك منها، حتى صار ميزان أقدار الرجال بما يملكون من النضار، وبلغ بالفقراء يأس آخذ بالكليتين فآمنوا بالعذاب والأوهام قال الشريد للكهنة (فأقصرت يائساً وصرفت نفسي آسفاً وعولت على الفرار بالبقية الباقية من حشاشتي ووجداني واستكبرت أن أصبر على معاشرة الناس بعد الذي تحققته وبعد أن صرت أبغض المجالس والنوادي ولا أرتاح إلى أحاديثهم، ولا أغتبط بالأصدقاء وصرت أجزع من الذين ادعوا محبتي ولا أرى لنفسي قدرة على احتمالهم) فقطع أحد الكهنة حديثه في رفق وقال له (وتركت وراءك مالك ومكانتك في بابلوس عاصمة البلد المتحضر وقضيت عشر سنين في السياحة باحثاً عن الحقيقة. وخرجت من وطنك لتقلب الدنيا وتجعلها كما يجب أن تكون؟. . أليست هذه غايتك وأمنيتك وحكمك! فسكت السائح المجهول كأنه في سكرة طويلة ونشوة مستمرة وقال كاهن