للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الهدف الأعلى الذي يرمي إليه الإله هو نفس الغرض الذي كانت ترمي إليه الآلهة في كل العصور - رفع النفس إلى مستواها الأعلى وتوسيع آفاق مسراتها - ولكننا نضيع وقتاً نفيساً في الجدل وربما يكون أحد الضواري قد أنشب أظفاره في ضيفكم ولعل وحشاً يقضاً كان يتبع خطواته، ويخشى أن يهاجمه وهو يوشك أن يلجأ إلى الهيكل، فلما أن فتح الباب توارى الوحش وقد ضاع أمله في الانقضاض على فريسته، ولكن لم يرض من الغنيمة بالإياب السريع. فلما أغلق الباب بعد فتحه ظن الوحش أنه قد خلا له الجو وآن أوان الافتراس. ولكن الكهنة لم يلبثوا في حيرتهم حتى سمعوا صوتاً داخل المحراب يستغيث بلسان غير لسانهم، ويبتهل ويتضرع بقلب مقروح وكبد حري. فإذا هو الغريب نفسه. وقد عرى من ثيابه فقد أشفق عليه الإله فأمر بحمله إلى حرمه بلا واسطة ثم غمره في حوض طهارته وألقى بثيابه الممزقة وراء جدار الهيكل ليغمرها الجليد فتخفى إلى الأبد عن الأعين. كان الغريب يصلي ويستغيث بعنف، بصوت متهدج وكلام متقطع، وكانت لحيته الكثة السوداء تضطرب، وأسنانه تصطك وقد تبدي ذاهلاً عمن حوله من الكهنة، الذين تجمعوا ليحدجوه بعيونهم بعد أن رأوا الإله يخرق له العادة ويقبله في المحراب.

ولما فرغ من صلاته جلس وتكلم لهم بلغي البلاد التي جاب آفاقها وقد ألتقفها جميعاً من أفواه المتكلمين وهو في سياحته، فقدموا إليه طعاماً من الشعير والزيت والفاكهة فبم يتذوق منها إلا قليلاً وكان يدير عينيه في قلبه فيبدو عليه السرور أو الألم كما يبدو على وجه من يشاهد أنه في الماضي القريب السحيق. ولم يكن في الجمع بين هاتين الصفتين تناقض فإن ماضيه كان حافلاً بالكفاح والجري وراء الحقيقة: فهو غني بالحوادث ولذا رآه قريباً وكذلك كان ماضيه محفوظاً بعذاب النفس وألمها فقد اكتوى بنار الحب بقدر ما تعلق بأهداب المثل الأعلى. وتلك التي عذبته لم تكن جديرة بحبه فهجرها وهو يعطف عليها وتخلى عنها وهو مشوق إليها. هذا طرف من الحوادث الواقعة التي كان يتكلم عنها فيصغون إليه، وهو يسح ويهضب بذكرياته، كان غنياً وكان شاعراً في بابلوس عاصمة الدنيا المتحضرة، وكان الناس متلهفين على آثاره والنساء متتبعات له متراميات على جسده يحاولن أن ينهشنه بأفواههن المحمرة، أو ينشبن فيه أظفارهن المحلاة بالخضاب المتعدد الألوان. وكان يرفه بشعره وحكمته عن الناس وينعش قلوبهم، ويغذي نفوسهم بإبداع فكره، ويفيض على حياتهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>