هذا ويجدر بنا أن نشير إلى قصيدته في آثار الأندلس فقد كانت دمعة حارة سكبها شكيب على الفردوس المفقود، وليت شعري ما يقول العربي الأبي في ارثه الضائع؟ ومجده السليب! وهل تكون قوافيه غير جمرات مشتعلة تتقد في النفوس، وزفرت ملهبة تتصاعد في الصدور؟ على أن أمير البيان قد ملك زمام شاعريته فجاء بالمعنى الرائع والوصف المحكم حين قال في وصف جامع قرطبة وأعمدته القائمة.
تراها صفوفاً قائمات كأنها ... حدائق نصت من جماد مشجرة
من العمد الأسنى فكل يتيمه ... لها نسب من مقطع متخير
نبت دونها زرق الفؤوس وأصبحت ... لدى الفرى تهزا بالحديد المعصفر
ولكن لفضل الفن ألقت قيادها ... فصال بها الصناع صولة عنتر
فبينا هي الصم الصلاد إذا انثنت ... مقاطع جبن أو قوالب سكر
عرائس للتحريم فوق رؤوسها ... أكاليل در في قلائد جوهر
ثم يمضي الشاعر إلى نهاية قصيدته لا أفلاً في هذا الوشي البديع ولست محتاجاً - بعد ما قدمته من النماذج المختارة من شعر الأمير - إلى أن أنص على انه حريصا على مقاومة التيار الجديد الذي يبيح للشاعر ما يند عنه الذوق العربي من تهرب من الوزن، وتنصل من القافية، بل انه ظل طيلة حياته يذب عن القديم بما يملك من بيان، وله في ذلك أبحاث عديدة يمكنك أن تفهم خلاصتها من قوله التهكمي (ونحن نقول للذين يتكلمون في القديم والجديد، ويزعمون أن لكل عصر مدرسة على قولهم في الشعر، أن هذه المدرسة تكون في العلم وتكون في الصناعة وتكون في الزراعة، وتكون في كل شئ إلا في الشعر؛ فان مدرسته هي القلب وطريقته هي النفس، والنفس البشرية لن تتغير ولن تتغير، فهي هي أزواقها ومشاربهاً، وما سمعنا أن الإنجليز زهدوا في شكسبير لكونه عاش قبل هذه الأيام بثلاثمائة سنة، ولا أن الألمان عابوا جوته لمجيئه قبل اليوم بمائة وخمسين سنة، فكيف نعيب المتقدمين!؟) وفي اعتقادي أن كلام الأمير جدير بالتأمل والانتباه، حتى يظهر الصبح لذي عينين.
أي نجم هوى يفقدك يا أمير البيان! وأي أمل تحطم حين ودعتك العروبة باكية إلى مقرك