بالاعتداد به والاحتفال له، وقد يكون من أسباب ذلك ظنهم أن الأدب الهيئة الحياة فلم يجعلوها جهيراً للخير وبوقا لليقظة وقد يتذمرون منه أن رواه كذلك في عيش يبتغونه رقيق الحواشي لا يعرف إلا هزلا.
وقد يلتمس بعضهم العذر لبعض وهو يراه على خطأ الرأي وصدق في العاطفة الجامحة بأنه أديب والأديب مرآة يتراءى فيها كل ما يتجلى لها فليس في تبديل ما يعرض له يدان، وما ذلك بعذر لو كانوا ينصفون: فالأديب مرآة ولكنها عاقلة، يصحب تشبيهها وتلهها إيمانها وتفكيرها وثقافتها وإرادتها وغايتها، فليست مكرهة على أن تسف وتسخف، بل ينبغي أن تصطفى مما يعرض لها، وان توجه الحوادث توجيهاً وتؤلف منها مظهراً جميلا لقصد رفيع ترينه، كما يؤلف الكيمائي من مختلف العناصر جسما لم يكن وهو يريده، وبذلك يثبت الأديب انفعاله بتأثير بيئته وعوامله الذاتية إثباتاً دفاعيا لا أتخذ آليا، كما ترى ذلك مثلا في العبرات للمنفلوطي ووحي القلم للرافعي:
أنا لست غافلا عما يؤلف في الإصلاح الاجتماعي، ولكني لست اعني الآن العلماء الباحثين والكتاب الصحفيين، إنما اعني الأدباء أولى الرعشات الروحانية الذين مهدت بالحديث عنهم، فما أقلهم وإن كثرت الكتب والصحف، وما أقل منهم حملة المصابيح في دياجير الحياة الذين يصدر أدبهم حيوياً تغذوه عقيدة راسخة وثقافة جامعة ناضجة فلا يستعبدهم هواهم ولا يستبد بهم ولا يسخرهم تقليدهم ولا يسخر بهم. فأين أين ذاك الماء الزلال الذي يفيض عن معينه الثر الذي لا يعتكر، ويصدر معينه عن السماء تمده بطلها وان كان هو في الأرض؟
أن الأدب العربي لا يتعذر الإصلاح عليه فهو يستطيع أن يحيط خبراً بما بين الناس وان يجتذب ما يحتاجون إليه مما يقوم حياتهم ويدرا عنهم ما يتهددهم من الآفات الاجتماعية التي انسلت إليهم من سواهم ثم تفشت فيهم وجعلتهم يتداعكون وهم بين أعداء لها يحذرونها وأنصار يفخرون بها ويحضون عليها، حتى لكان أبا العتاهية يصدق فينا قوله:
أنا في زمن ملآن من فتن ... فلا يساب به ملآن من فرق.
يستبين من هذا كله أن على الأديب العربي اليوم أن يجعل حظه عظيما من بحوث الأخلاق والاجتماع وما ايها، حتى لا يلتبس عليه الحق بالباطل والشراب الأجل بالسراب العاجل،