ثائرتها ما طبعوا عليه من كروم وإنسانية، وجعلتهم يواجهون الحقيقة حتى لا تعصف بهم الخديعة على غرة، والأمر كما قال شوقي شاعر العرب:
وكم في طريق الشر خير ونعمة ... وكم في طريق الطيبات شرور
النصر الأول:
إني أرى التاريخ يعيد نفسه اليوم!
فقد حدث من قبل أن طغى كسرى وبغي، صر النعمان ابن المنذر شر مصرع، ثم أرسل إلى هانئ بن قبيصة يطلب منه ما استودعه النعمان من الدروع والرماح، حتى ابنته أيضاً، فابى هانئ عليه ذلك وفاء بحق العرب، فآسرها كسرى في نفسه، وحشد على العرب زحفا من جيوشه يسد عين الشمس، وحسب انه ساحقهم لا محالة، وعلم بذلك الشاعر الأيادي لقيط بن معمر الذي كان يتولى الكتابة في ديوان كسرى، ففزع لقومه، وأرسل إليهم بهذه الصحيحة التاريخية يقول:
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... إلى الجزيرة مرتادة ومنتجعا
ابلغ أبادا وخلل من سراتهم ... إني أرى الرأي - إن لم اعص - قد نصعا
أني أراكم وأرضاً تعجبون بها ... مثل السفينة تغشي الوعث والطبعا
ألا تخافون قوما لا أبا لكم ... أمسوا إليكم كأمثال الدبا سرعا
يا قوم أن لكم من ارث أولكم ... مجدا قد شفقت أن يفنى وينقطعا
يا قوم لا تأمنوا أن كنتم غيرا ... على نسائكم كسرى وما جمعا
هو الجلاء الذي يجتث أصلكم ... فمن رأى مثل ذا رأيا ومن سمعا
قوما قياما على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا قد ينال الأمر من فزعا
وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
ولقد استجاب العرب لهذه الصحيحة، واندفعوا على مضطلعا ولقد استجاب العرب لهذه الصحيحة، واندفعوا على صداها يدودون عن شرفهم وحرماتهم، ووقف هانئ بن مسعود على جموع العرب يخطب خطبته المأثورة: يا معشر بكرا! هالك معذور، خير من ناج فرور، أن الجازع لا يرد القدر، وان الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، واستقبال الموت خير من أستدباره، فالجد لجد، فما من الموت بد!