للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وقد وقع قبل الهجرة بخمس سنين.

فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أراد أن يجمع بين أهل هذا الوطن من مسلمين ويهود، وكان العرب من الأوس والخزرج قد اجتمعوا على الإسلام، وبقي اليهود على دينهم فلم يسلموا، فتركهم المسلمون أحراراً في دينهم، ولم يكرهوهم على أن يدينوا بالإسلام مثلهم.

فعقد النبي صلى الله عليه وسلم معاهدة بين المسلمين واليهود، كانت أول معاهدة فرقت بين الدين والوطن منذ الخليقة، وجعلت الدين لله يحاسب عليه يوم الحساب، فمن عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها، وجعلت الوطن لجميع الناس، يستوون في حقوقه على اختلاف أديانهم وأجناسهم، فلا عصبية ولا قومية ولا غيرهما مما يفرق بين الناس في الأرض، ويثير الحروب والعداوات بينهم.

وهذه سنة جديدة في السياسة لم يكن للناس عهد بها قبل الإسلام، جاءت بأصلين عظيمين جديدين في هذه الحياة: حرية الاعتقاد، والمساواة بين الناس في الوطن. فلم يكن قبل الإسلام أصل من هذين الأصلين، بل كان أهل الأديان في حروب دائمة على الدين، وكانت الشعوب في حروب دائمة على استعباد بعضهم لبعض، فأبطل الإسلام الحروب الأولى، ونادى بها صرخة مدوية في الأرض (لا إكراه في الدين) وأبطل الحروب الثانية أيضاً، وجعل هدفه هداية الناس لا استعبادهم.

فلم يسع اليهود إلا أن يوافقوا في الظاهر على هذه المعاهدة الكريمة، حتى لا تظهر نيتهم الخبيثة لأهل هذا الوطن الذي آواهم وأكرمهم، وحتى لا يظهروا بمظهر الكارهين لدينهم، وهو يدعو إلى التوحيد كما يدعون، ويرفض عبادة الأصنام كما يرفضون، ثم أخذوا يكيدون في الباطن لأهل هذا الدين الذين لا ذنب لهم عندهم إلا أنهم نهضوا من جاهليتهم، ورفضوا عبادة الأصنام إلى عبادة الله تعالى، لأن اليهود لا يهمهم شيء من هذا، وإنما يهمهم استغلال من يؤويهم في وطنه، ويرضيهم كل الرضا أن يبقى جاهلاً يعبد الأصنام، إذا كان هذا مما يمكنهم من استغلاله. . .

فأخذ اليهود يعملون على إثارة العداوة القديمة بين الأوس والخزرج، ليتفرق جمعهم، ويتركوا هذا الدين الذي جمع بينهم. ومما عملوه في ذلك أن شاس بن قيس اليهودي مر

<<  <  ج:
ص:  >  >>