على نفر من الأوس والخزرج قد جمعهم مجلس واحد، ترفرف عليهم فيه أعلام المحبة والإخاء، وتظهر عليهم فيه آيات الإخلاص والولاء، فغاظه هذا المظهر الكريم، وقال: قد اجتمع ملأ قيلة بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار. ثم أمر فتى من اليهود أن يعمد إليهم فيجلس معهم، ويذكر يوم بعاث وما كان قبله من حروبهم، وينشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيها من الأشعار، ففعل الفتى ما أمره به شاس، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه. إن شئتم رددناها الآن جذعة. وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة السلاح السلاح. ثم خرجوا إلى تلك الحرة، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعلوه، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، فلما وصل إليهم قال لهم: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وأستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم؟ فبكى القوم عند سماع هذه الكلمات، وعانق بعضهم بعضا، ورجعوا إلى ألفتهم واتحادهم.
فلما يئس اليهود من التفريق بين المسلمين انقلبوا إلى من بقي على الشرك من أهل المدينة، وكان أكثرهم من المنافقين الذين يخفون الشرك ويظهرون الإسلام، فحالفوهم على المسلمين. ثم أخذوا يؤلبون القبائل العربية على حربهم، وسعوا إلى قريش فحالفوها عليهم، ولم يتورعوا في عداوتهم للإسلام عن تزيين الشرك وعبادة الأصنام لهذه القبائل، وتفضيل هذا على الإسلام الذي يدعو إلى التوحيد كما يدعون، ولم يهمهم أن يخرجوا بهذا على دينهم لأن القومية عندهم أهم من الدين، وأنر الدنيا عندهم أهم من أمر الآخرة، فلا يهمهم أن يبيعوا دينهم في دنياهم، وسعادة الآخرة في سعادة الدنيا، لأنهم الشعب المختار بين الشعوب، ولا قيمة في هذه الدنيا لغيرهم.
وكانت سياسة جهل وغباء من أولئك اليهود، وكانت تدبيرات ظالمة باغية بازاء ما أراده الإسلام من العدل والإنصاف فجازاهم الله على هذا شر جزاء، ونصر حق الإسلام على باطلهم، ورفع ما يدعو إليه من العدل والإخاء والمساواة على ما يدعون إليه من الظلم والعداء والتفريق، فذهب كل ما سوله الجهل لهم في القضاء على الإسلام أدراج الرياح، وفشلت سياستهم الباغية الجاحدة المفرقة، ولم ينفعهم أولئك المنافقون الذين آثروا حلفهم