انقطعوا عن المعارضات حقها وباطلها، ولم أكن أعتقد أن مسيلمة أو غيره من أعراب البادية ينزل إلى هذا المستوى، ويمخرق على قومه وهم فصحاء بلغاء بهذا الهراء، وكنت وما زلت أحفظ قول الجاحظ عن انقطاع العرب عن المعارضة:(ولم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر، فلو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده، ويحامي عليه، ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وقارب وناقض) وهذا - ولا شك - نص وثيق صريح في إن شيئاً من هذه المعارضات لم يكن وصل إلى علم الجاحظ، وهو ما هو، فإذا أضفنا إلى ذلك أن كل هذه المعارضات من التهافت وضعف التأليف بحيث يستحيل صدورها من عربي بله عربي يقول فيه المرحوم مصطفى صادق الرافعي إنه أفصح من المتنبي، وذلك حيث يقول في كتابه إعجاز القرآن (وما المتنبي بأفصح عربية من العنس ولا مسيلمة) على إن مما روي للمتنبي مما قالوا إنه عارض به القرآن أقول من هذا ما يشبه أن يكون كلاماً مثل قوله (والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي إخطار، امضي على سننك، وأقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه، وضل عن سبيله) فأين من هذا ما يلصقونه بمسيلمة؟
وفي محفوظي مما لست أستطيع أن أحققه الآن ببعدي عن كتبي، إن مسيلمة طلب منه قومه أن يأتيهم بقرآن فقال هذا ما لا ينطق به لسان من عضل.
على أن الذي أثار دهشتي - ومن أجله كتبت هذه الكلمة - إن الرافعي عليه الرحمات، قد ساق هذه المعارضات سوق المسلمات وأخذ يشقق القول فيها ويصرفه، وجعل يعلل ضعفها وتهافتها، وذكر منها قول مسيلمة:(والمبذرات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، وااللاقمات لقماً، اهالة وسمناً، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغي فناوئوه) وقوله (والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تمجعون) وقوله (الفيل ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل) ثم قال الرافعي وما كان الرجل من السخف بحيث ترى، ولا من الجهل بمعاني الكلام، وسوء البصر به بمواضعهن ولكن لذلك سبباً نحن ذاكروه وأقول أن هذا هو الحق، وأن لنا أن نتخذ هذا القول نفسه عماداً نتكئ عليه في