وظلت في وجه الرئيس بشاشته على الرغم مما كان يرتسم على محياه من علامات الألم لما يقول الشاب، وقبل أن يتكلم الرئيس، أنطلق ذلك الكهل الذي كان ينتظر دوره. وقد نهض كالخطيب فقال يخاطب الشاب: اسمح لي أن أنصح لك نصيحة مجرب: طلق الكرامة والذمة والحق والأمانة ما دمت قبلت الوظيفة كرامة؟ رأي؟ إرادة؟ إنك يا بني تحلم. أنت في مصر. إنك تكلف نفسك رهقاً شديداً إذ تمسكت منذ الآن برأيك وحكمت ضميرك وأرضيت خلقك. . أنت يا بني عبد. . لا تغضب فأنا عبد مثلك. . وكل موظف عبد من أكبر كبير إلى أصغر صغير وإنما يستعبد بعضنا بعضاً. . . كرامة؟ رأي! ضمير؟. . . أنت فين؟. . . المسألة أكل عيش بأي شكل، وكل واحد لا يهمه إلا نفسه. . الصالح العام؟ أين هو. . . أحنا فين؟. . . داحنا في مصر. . .
وظل صاحب الديوان على هدوءه وبشاشته، وجلس الخطيب الكهل بعد كلام طويل من هذا القبيل؛ وأخرج الشاب ورقة من جيبه فدفعها إلى الرئيس فإذا هي استقالته؛ وراجعه الرئيس متلطفاً ثم استمهله يومين لينظر في الأمر؛ وخرج الشاب، وألتفت إلى الكهل فإذا قضيته هي قضية ذلك الشاب ولكنه كما قال لا يستقيل لأن له بنين وبنات ينفق على تعليمهم وليس يملك غير مرتبه. . ووعد الرئيس كذلك أن ينظر في أمره من أجل أولاده فأنصرف وهو يقول حسبي الله. . .
ونظر إلى الرئيس وقال باسماً: كأني أراك تكتب منظارك؛ وما كاد يلتفت حتى طلب الأذن مستأذن فأدخل، فإذا بشاب في نحو الخامسة والثلاثين دمث مهذب فيما يبدو، في وجهه من الهم والكدرة أكثر مما فيه من غضب، وسلم وقال، أنا فلان، وسرد تاريخ حياته، ثم ذكر إن فلاناً من فرقته رقي وهو ثاني الفرقة، وإنه هو لم يرق وهو الأول، ويحب أن يعلم لم تخطاه الثاني، فإن كانت له عيوب فمما يشفي نفسه أن يعرفها، أما أن يقال لك إنك ممتاز وأما أن يثني عليه رؤساؤه جميعاً ثم يترك ويرقى من هو دونه فذلك ما لا يستطيع أن يستسيغه ولا أن يحمل على قبوله عقله، وهو ما لا تطيقه كرامته.
وعند ذلك أنطلق الوكيل الذي ظل صامتاً منذ أن دخلت، فأخذ دور ذلك الكهل الخطيب، وقال في اتزان ولكن في كثير من التحمس اسمع يا أستاذ ألا زلت من السذاجة. . . لا تؤاخذني. . . ألا زلت من الطيبة بحيث تفهم أن الأمر أمر كفاية واستحقاق. . . ابحث