الأمر وتولى تدبيره بنفسه، فهدر ما كان من أوضاع الفتوة السابقة ووضع لها نظاما عاما ينتظم الأكابر والأصاغر والخاصة والعامة، وجعل نفسه القبلة في هذا والمرجع، وأرسل إلى الملوك والأمراء على أن يأخذوا بهذا النظام، قال (أبو الفداء) في حوادث سنة سبع وستمائة: (وفي تلك السنة وردت رسل الخليفة الناصر لدين الله إلى ملوك الأطراف أن يشربوا له كاس الفتوة، ويلبسوا له سراويلها، وأن ينتسبوا إليه في رمي البندق ويجعلوه قدوتهم. . .) ويقول أبو المحاسن أبن تغري بردى في النجوم الزاهرة: (وفي أيام الناصر لدين الله ظهرت الفتوة ببغداد ورمى البندق ولعب الحمام المناسب وافتن الناس في ذلك، ودخل فيه الإجلاء ثم الملوك، فالبسوا الملك العادل ثم أولاده سراويل الفتوة، ولبسها أيضا الملك العادل ثم أولاده سراويل الفتوة، ولبسها أيضا الملك شهاب الدين صاحب غزته والنهد من الخليفة الناصر لدين الله ولبسها جماعة أخر من الملوك. . .).
ولعل أبن الساعي هو المؤرخ الوحيد الذي فصل ما كان من عمل الناصر في ذلك، ولقد حفظ لنا هذا المؤرخ العظيم صورة من العهد الذي أذاعه هذا الخليفة على رؤساء الأحزاب بتعاليم الفتوة وما حدد لها من التقاليد والأوضاع حتى لا يتعدوها فيما بينهم وبين أنفسهم وفيما بينهم وبين الناس، وقد كان من خير ذلك العهد أن الفاخر العلوي كان رفيقا للوزير ناصر أبن مهدي وكان له رفقاء فاختصم أحد رفقائه مع رفيق لغز الدين نجاح الشرابي ووقعت بذلك فتنة عظيمة بين الفريقين، حتى تجالدوا بالسيوف فانتهى هذا إلى الخليفة الناصر فأنكره، وتقدم إلى الوزير يجمع رؤوس الأحزاب، وأن يكتب في ذلك كتاب يؤمرون فيه بالمعروف والألفة، وينهون عن التضاغن والتباغض، ويقرا بمحضر منهم ويشهد عليهم بما يتضمنه، فمن خالفه أخذت سراويله وأبطلت فتوته، وعوقب بما يستحق، ويعتبر هذا العهد وثيقة نادرة تكشف لنا عن الحدود التي رسمنها الخليفة الناصر لنظام (الفتوة) الذي أقامه، وتبين لنا ما وضع لهذا النظام من هدف وغاية ففي ديباجة هذا العهد يشير إلى شئ من تاريخ الفتوة ومرجعها واصلها فيقول: (من المعلوم الذي لا يتمارى في صحته، ولا يرتاب في وضوح براهينه وأدلته أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هو أصل الفتوة ومنبعها ومعجما أصافها الشريفة وطلعها وعنه يروي محاسنها وآدابها، ومنه تشعبت قبائلها وأحزابها، وإليه دون غيره ينسب الفتيان وعلى منوال مؤاخاته