أمسيت لا شيء وأنت حي مقيم في ذاكرتي. أجل! إنني أعلم بأننا سنجتمع معاً. وهذا الوهم سيملأ فراغ قلبي)
وهكذا نجده لا يذكر المستقبل إلا مصحوباً بوهم أو بحلم، ولكنه وهم خلقته له الحاجة، فهو لو لم يرغب في لقاء من مات من أترابه لما خلق هذا الوهم.
وبيرون هو الذي يهتف:(أصدقائي يتهاوون على الثرى من كل جنس، وأنا سأرسو على الأرض كشجرة منفردة قبل أن يغشاه ذبول. يستطيع الرجال الآخرون أن يلوذوا بأهليهم وأنا لا ملجأ لي إلا عواطفي التي لا تريني في حاضري وفي غدي إلا الرضا الأناني ببقائي حياً بعدهم، إنني لشقي!)
وقد يبلغ به اليأس مبلغاً أشد وأقوى فيقول (أيها الإنسان! ترفع عينيك إلى السماء وأنت لاصق بالأرض، ألا يكفيك أن تعرف من أنت؟ وهل كان الوجود منحة ثمينة تنعم بها مرة ثانية بعد هذه؟ وترغب في التوجه إلى مكان لا أدريه، جل ما تطلبه أن تستعجل الفرار من هذه الأرض، والفناء في السماء)
وفي حالة يأس كتب بيرون هذه الفقرة (الموت! وا أسفاه! ذهاب دائماً! فإلى أين يذهبون! وإلى أين يذهبون؟ أسأحول إلى العدم الذي كنت فيه قبل حياتي وشقائي الحي؟)
وهذه الفقرة الثانية (الحياة تحلق بين عالمين: كالنجمة المعلقة في حاشية الأفق يكتنفها عالماً الظلمة والنور. إن أوقيانوس الزمن الخالد يمشي ويجرف معه (حبباً خفيفاً). الحبب القديم يتلاشى والحبب الحديث يتألف منفصلاً من زبد العصور. وخلال ذلك ترى بقايا هذه الممالك تجرفها أمواجه الهاربة)
ولكن هذه الثورة النفسية يتخللها شيء من الهدوء. أو قل هدوء الخضوع للقدر المجهول الذي يعمل دون أن يرى. فيخلق الشاعر من هذا الرضا شيئاً يبعثه على الرجاء فيناجي الموت قائلاً:(أيها الموت القاسي، قد ملكت مني كل ما تستطيع أن تأخذه: سلبتني أمي، ثم صديقي، والآن نزعت مني أسمى من صديق، ولكنني أنحني بوقار أمام الله) وإذا بهذا الوقار ينمو في نفس الشاعر ويوقظ فيه الأيمان القديم ويحني فيه حنيناً إلى السماء، فيأسف على القيود التي تحول بينه وبين الصعود إلى السماء التي تدعوه إليها بنظراتها الخلابة، وإذا بشعره تبدو على ديباجته مسحة روحانية صوفية.