قال الكونت (غامبا): لأول مرة فتحت حديثاً دينياً مع الشاعر بيرون في نزهة لنا قضيناها على ظهور الجياد بين غابات الصنوبر، فكانت تلك العزلة باعثة على التأملات. فقال: والنهار مشرق الصفاء (كيف يشك الإنسان في وجود الله على الأرض إذا رفع عينيه إلى السماء وخفضهما على الأرض، ثم أنحدر بهما إلى نفسه، أفي استطاعتنا أن نشك في أن هنالك شيئاً هو أسمى وأبقى من التراب الذي نشأنا منه؟.) وهو الذي كتب قبيل وفاته: (يخيل إلي إن الإنسان إذا تأمل في أعمال الروح لا يستطيع أن يجد شكاً في خلودها، إنني شئت أن أشك، ولكن التأمل أبدى لي خطئي. أما هل حالتنا الثانية تشبه حالتنا الحاضرة؟ فهذا سؤال آخر. أما أن الروح هي خالدة، فهذا شان ثابت عندي ثبات فناء الجسد.) ولكن بيرون الذي يؤمن بالحياة الثانية نراه لا يؤمن بها على المثل الذي جاءت به الكتب الإلهية، فهو يجعل من الجنة مستقراً للجميع، ولا يود أن يحشر في النار أحداً. ويقول في هذا الموضوع:(إن كل بعث جسدي هو غريب منكر لا يقبل به العقل إلا إذا كان المراد منه إنزال العقاب. ولكن كل عقاب غايته الانتقام من المذنب لا تهذيبه فهو عقاب سيء غير أدبي. والأهواء الإنسانية هي التي بدلت - كما يتبادر إلى الظن - المذاهب الإلهية. والخلاصة إنه سر عظيم.) وتراه يطلب إلى الدين أن يحقق ما أبت الفلسفة أن تميط عنه اللثام: (ما هي الحقيقة؟ ومن هو الذي يملك دليلها؟ الفلسفة؟ كلا: لأنها تنفي كثيراً من الأشياء! الدين؟ بلى. ولكن أي دين؟ أما قد حان للإله أن يحيي إيماننا فيرسل إلينا نبياً جديداً.)
وهكذا تتوزع بيرون نوازع مختلفة، منها ما يدنيه إلى الجحود بعد أن تجهد نفسه في التنقيب والتفكر، فلا تصل إلى شيء. ومنها ما يصرفه إلى الإيمان بعد أن تكل عزيمته، ويأخذ منه الإعياء كل مأخذ. فآيته منها الآية الشاكة الجاحدة، ومنها الآية المؤمنة الزاهدة، هو كالعصفور الذي يود أن يحلق فيحلق في الأجواء حتى يبلغ الاوج الذي يستطيع، ثم يهبط ويرضى بهبوطه لأن ارتفاعه لم يغنه شيئاً.
وكيف انتهى بيرون؟ وهو الذي كان يرجو الموت فلا يلقاه. ويكرهه أشد الكراهية إذا تمثل في الانتحار، أراد موتاً شريفاً في ساحة الأبطال، فيمم أرض اليونان حيث دعاه داعي تحرير الإنسان من الإنسان، فوجد نفسه يحيط بها القلق ويغلب عليها الاضطراب. وهناك