أعظم كتبه أثراً، مقال عن المنهج، بقوله:(العقل السليم أكثر الأشياء توزعاً بين الناس بالتساوي)، وإنما يقع الخلاف بينهم في المنهج الذي يسلكونه في التفكير. ولقد أدت هذه الدعوة إلى المساواة القائمة على أساس من المساواة في العقل، إلى الثورة الفرنسية التي نشبت تطلب الحرية، والإخاء، والمساواة. ونجحت الثورة، وأصبحت المساواة في الحقوق السياسية وأمام القانون حقيقة ثابتة اعتنقتها جميع الدول، وقامت عليها الدساتير.
أليس غريباً بعد ذلك أن نبيح الحقوق السياسية لجميع الناس، ثم نقصر حق التفكير على بعض الناس دون بعضهم الآخر، لأن التفكير هو النظر ومعرفة حقائق الأشياء، فيترتب على ذلك سلوك كل إنسان في الحياة بمقتضى تلك المعرفة، ولا يهمنا أن يكون ما يعرفه زيد صحيحاً أو فاسداً، وإنما يهمنا أنه يعتقد بما يعرف، وأنه يزعم أنه يعرف.
وهل يوجد من هو معصوم من الخطأ، أو يبلغ مرتبة الكمال في التفكير؟
ولقد كان هذا التعريف مقبولا عندما كانت الفلسفة تشمل كل فرع من فروع المعرفة، أو بمعنى أصح عندما كانت العلوم فروعاً من شجرة الفلسفة. فلما بدأت العلوم تستقل وتنفصل واحداً عن الآخر، لم يبق للفلسفة موضوع في زعم بعض المفكرين، وأن موضوعها عند البعض الآخر هو البحث في العقل، ذلك الذي يبحث في العلوم نفسها وفي المسائل الإنسانية التي تتعلق بالسلوك وقيمته من خير وشر.
فإذا كان الأمر كذلك فقد ارتدت الفلسفة إلى ما كانت تبحث فيه أيام سقراط، إذ انصرف عن البحث في الطبيعة إلى البحث في الإنسان.
ولذا قيل إن سقراط هو الذي أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض. فإذا عرفنا ذلك لم نعجب إذا رأينا سقراط يعلم حكمته في الأزقة والملاعب والأروقة وفي كل مكان، ويلقيها على كل إنسان. ذلك أنه كان يعد المعرفة صادرة عن باطن النفس، ولهذا يكفي أن ينعطف المرء على نفسه ويتأمل فيها ليصل إلى الحقيقة؛ وهذا هو السبب الذي من أجله اتخذ الشعار المكتوب على معبد دلفي (اعرف شعار نفسك) شعاراً له.
فالفلسفة السقراطية لم تقصر هذا الفن على فئة دون فئة، بل ذهبت إلى أنها حق مشاع لكل إنسان، يهتدي إليها بالتفكير والنظر.
ولقد كانت الفلسفة في عهد سقراط حية، تدور على الألسنة وتصيغ حياة الناس في أعمالهم.