المجادلين أكثرها باطلاً وأقلها حقاً فيكرهون إلينا الأدلة فلا نثق بها أو نوقن بمعرفتها - ويحاول سقراط أن يبين لمحدثيه حقيقة موقفه من الجدل، وبعُده عن أن يخدعهما أو يخدع نفسه، ثم يطلب إليهما أن يقوِّماهُ إذا أخطأ، وأن يعملا معه لنصرة الحقيقة.
ويعود سقراط إلى تلخيص شكوك صاحبته في قضية أو قضيتين، ثم ينتزع منها إقرارا أكيداً على ما في قوله بالتذكر وأزلية الروح من طرافة وصدق لا يشكان فيه، ثم يناقض هذا التسليم منها برأيها في الروح كاتساق للبدن، قائلا إنه إذا كانت الروح تشبه انسجام النغم، وكان البدن هو أوتار القيثارة ومادتها فلا يعقل أن يكون للروح توافق قبل وجود البدن الذي هو القيثارة في مذهبهما. بل لابد - لو صحت نظريتهما - ألا يتم توافق الأصوات والنغم إلا بعد الأوتار وتنافرها - كما أنه يفني قبلها جميعاً. وينتهي بهما سقراط إلى ضرورة إسقاط أحد الرأيين، فيطرح سيمياس مبدأه لأنه ظني، ويسلم بنظرية التذكر لأنها عنده يقينية - ويستطرد به سقراط فيبين له أن الانسجام نتيجة تناسق الأجزاء، ولهذا كان يتدرج بين التناسق التام والتناسق الأقل - تبعاً لتفاوت تناسق الأجزاء في ذاتها كعناصر - مكونة لهذا المركب، وأن الروح إذن تصبح تنافراً فيما لو اتصفت بالرذيلة، لأن الروح هي دائماً التي تقود الجسد، وتفرض عليه رغباتها - فلا هي إذن في انسجام معه - ولا هي نتيجة له كالأنغام للقيثارة.
ويردد سيبيس مخاوفه الأولى من فناء الروح لحلولها في عدة أجساد، فيرى سقراط أن هذا يمت بصلة إلى موضوع الكون والفساد. ويقترح أن يدلي إليهم فيه بتجربته. ومؤداها أنه فتن منذ حداثته بالعلم الطبيعي ظناً منه أنه العلم الذي يبحث علل الأشياء - من أين توجد - إلى أين تصير، وفيم كان وجودها وفسادها، وما العنصر الذي تفكر به. . الخ ولكنه لم يجد لدى هذا العلم ما يقوله في هذه الأمور، وطبيعي ألا يجدها - فما يريده هو ليس من مباحث علم الطبيعة - ولكنه إلى الميتافيزيقا أدنى - والنتيجة أن تحثه عن علل هذه الأمور في علم الطبيعة قد شككه في أبسط معارفه - ثم إنه وجد بغيته في عبارة قيل له إنها توجد في كتاب لأنكساغوراس (وهي أن العقل هو العلة المدبرة لكل شيء) فراح يسعى وراءه ويعلق عليه آمالا كباراً - حتى إذا جاءه لم يجده سيئاً. . . لقد كان سقراط يبحث حينئذ عمن يقول له، إن الكون في أحسن صورة له - وأن ليس في الإمكان أبدع