مما كان - ولكنه - يا للأسى!. وجد أنكساغوراس بعد أن ألقى بعبارته الجميلة - هذه جزافاً - يبعد في تفسيرها عما كان يريده سقراط أن يفعل - فأين إذن قوله بالعقل - وفيم إذن رجوعه إلى ما قال الأولون من خلط؟ لقد كان ينبغي عليه أن يعلل بقاء سقراط قابعاً هكذا في سجنه - بأن العقل هو الذي يشير عليه بهذا ما دام الأثينيون قد أرادوا ذلك ولو ظلماً - لا أن يأتي بتعليلات أخرى ولو كانت هي العلل الحقيقة في على الطبيعة، هو يريد من علم الطبيعة أن يبحث عن العلل الخفية والأسباب البعيدة - لا القريبة. . التي يسميها هو حالة - وبالجملة يريده أن يعلل كل شيء يرده إلى قوة عليا مدبرة تتصف بالعقل والخير والكمال، وهو ما لم يجد سقراط من يستطيع أن يعلمه إياه.
وعاد سقراط من دراسة هذه المذاهب خاوي الوفاض، وكل همه أن يبقى على عين بصيرته، ونقاء روحه - أو (عيانه) - الذي يستطيع به أن ينفذ إلى باطن الأشياء يتأملها ويتعرف حقيقتها، ويفض يده من الأشياء ليبحث عن صورها الكاملة في عالم المثل - وقولة:(هذا سبيلي التي سلكتها: فرضت بادئ الأمر مبدأ. . . . ثم أخذت أثبت صحة كل ما اتفق معه. . . الخ ص٢٦٤ من الترجمة العربية) حجة يجب أن يقف عندها طويلا طلاب المسابقة - لأنها تثبت لسقراط السبق في القول بنظرية المثل كما عرضت لأول مرة في محاورة برمنيدس، باعتراف أفلاطون - وهو كاتب الحوار - ولكن مناقشة زينون وبرمنيدس إلايليين لهذه النظرية الجديدة التي يعرضها سقراط وهو في العشرين من عمره (سنة ٤٥٠ ق. م - كما تدل عليه ظروف المحاورة) - قد حملت هذه المناقشة سقراط على التراجع والحذر، والعمل على أن يجمع لنظريته الأدلة التي تقويها - حتى لا يهاجمها أحد آخر غير هذين، دون أن يتحدث عنها إلا في ظروف خاصة، وفي هذه الحجة وحدها ما يكفي للرد على المؤرخين الذين لا يريدون أن يعترفوا لسقراط بنصيب في نظرية المثل.
إن الأشياء الجميلة توحي إلينا بالجمال المطلق، والخِّيرة بالخير المطلق، والعادلة بالعدل المطلق؛ فهذا مثل كلية مطلقة تذكرنا بها الأشياء الجزئية النسبية التي تدركها حواسنا، وهذه الأشياء جميلة وخِّيرة وعادلة بقدر مشاركتها في مثال الجمال والخير والعدالة، وكذلك مثل الكبر والصغر والتساوي، وبهذا نكون قد أثبتنا نظرية المثل ومشاركة الأشياء المحسوسة فيها مشاركة نسبية تتفاوت بين الكبر والصغر أو تجمع بينهما بالنسبة إلى شيء وآخر. أما