إذا كان الرجلان من طبقة واحدة كالبلاذري والطبري؟ بل لعل الطبري أقوى الرجلين واعلمهما وأكثرهما دراية بالتاريخ وتحصيلا له وهو الذي روى عنه انه قال لأصحابه:(أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره قال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا مما تفنى فيه الأعمار قبل تمامه. فاختصر لهم في ثلاثة آلاف ورقة. ثم قال لهم: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوا مما ذكره في التفسير فأجابوه بمثل ذلك فقال: أنا لله!! ماتت الهمم!).
ومن قرأ كتاب الطبري في تاريخه أو تفسيره علم أن هذه حق، وان الرجل كان فارغا للعلم لا يلفته عنه شئ قط، ولا يدع شاردة ولا واردة إلا تقصاها وحققها ورأى فيها الرأي الذي لا يكاد ينقض. والفرق بينه وبين البلاذري لا يخطئه بصير بهذا العلم فليس من الحجة في شئ أن يقال (في عصرنا هذا): أن البلاذري لم يذكر هذا، فيكون ذلك كافيا في الرد على ما ذكره الطبري. وهذا شئ بين لا يحتاج إلى جدال كثير.
وإذن فالدكتور قد اشتط وركب مركبا لا يليق بمثله حين نفى خبر عبد الله بن سبا، وخبر الكتاب الذي فيه الأمر بقتل المصريين بعد الذي قد رأيت من تهافت أسلوبه في البحث العلمي؛ وإذن فالدكتور قد خالف سنة العلم والعلماء في نفي الأخبار وتكذيبها بلا حجة من طريقة أهل التمحيص، بل تحكم تحكما بلا دليل يسوقه عن فضيلة البلاذري وتقديمه على الطبري، وبلا مراجعة للصورة التي طبعت عليها الكتب، وبلا دراسة لنفس الكتب التي ينقل عنها كما هو القول في ابن سعد والبلاذري معا. وإذن فيحق لنا أن ننقل هنا كلمة للدكتور طه نفسه قالها عندما ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر الخلاف الذي كان بينهم، وذكر أو زعم انهم تراموا بالكبائر وقاتل بعضهم بعضا وزعم انه لا ينبغي لنا أن يكون رأينا فيهم احسن من رأيهم هم في أنفسهم فقال في ص١٧٢ من كتابه:
(ينبغي أن نذهب مذهب الذين يكذبون اكثر الأخبار التي نقلت إلينا ما كان بينهم من (فتنة) واختلاف. فنحن أن فعلنا ذلك لم نزد على أن نكذب التاريخ الإسلامي كله منذ بعث النبي لأن الذين رووا أخبار هذه الفتن هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي والخلفاء فما ينبغي أن نصدقهم حين يرون ما يروقنا، وان نكذبهم حين يروون ما لا يعجبنا. وما ينبغي أن نصدق بعض التاريخ ونكتب بعضه الأخر لا لشيء إلا لأن بعضه