منهمر الماء؛ ورايتها تهبط إلى الأودية وئيدة مسترخية وإذا هي تستلقي عليها كالذي أخذته سنة من النوم: فتستحيل الأودية في عينيك فرشا وثيرة، غير إنها فرش بطائنها من النجم والشجرة لا من سندس وإستبرق؛ ثم رايتها تثب من نومها موفورة النشاط، وتتسلق الهضاب بخفة ورشاقة ثم إذا هي تزحف عليها في دلال كالذي استهواه الجليد فتزحلق عليه: فتصبح الهضاب في عينيك قطعا متجاورات من الجليد إلا انه جليد متناثر الحصى لا من متساقط الثلوج وبعد ذلك تراها تعدو كالسهم إلى مكان سحيق وتطوف في مجهل بعيد، فتبين من شعاعها إنها تحوم حول عيون وينابيع، فتغوص فيها ثم تتفجر من صدرها وتتدفق: فتصير الينابيع في عينيك حسانا باديات النحور بيد أن نحورها تتلألأ بلجين الماء لا بالدر والياقوت!
ويتأمل الشاعر المشهد تأملة الفيلسوف الذي يريد أن يتعمق كل مبهم، ويستبطن كل سر، ويجلو كل غامض ولو كان بعيد المتناول وعر الملتمس، غائبا عن الأبصار - فيرى بعين بصيرته ما لم يره بعين وجهه: يرى ظلا ممدودا ووميضا غامضا، فأما الظل فما مده إلا نتيجة عن منطقة النور وانزواؤه في بقاع الظلام الشاحب نورا وهاجا، وأن يضفي على ليله الفاحم البهيم شعاعاً من نهار لا زوردي بديع، ويزيد هذا الوميض غموضا وريبة وإبهاماً واستغلاقاً انه يعود حائلا خفيفا باهتا ضعيفا حيثما بعد عن العين في فضاء لا يتناهى واتساع لا يحد ومع ذلك فالآفاق تؤثر أن تسبح معه هنالك لتغرق في نوره.
٣ - (والوميض الغامض. . في الظل الممدود
يضفي على الظلام الشاحب شعاعا من نهار لازوردي،
ومن بعيد. . . في فضاء لا يتناهى
يسبح بالآفاق غريقة في نوره الباهت!
ولكن لا مرتين يريد أن يصف الجزيرة وجمالها، لا الشمس وغيابها، ولا القمر وطلوعه، وإنما عرض للشمس في بيت وللقمر في ابيات، ليستلهم من ذهاب النهار بضجته، واقبال الليل بروعته معاني الخلود في قصيدته.
من أجل ذلك عاد إلى الجزيرة بقلبه ووجدانه وقلب البصر بين البحر وبين شطأنه، فوجد البحر عاشقا وألفى الشطئان معشوقة؛ وما كان البحر ليعشقها لولا إنها ساكنة وادعة وهو