وبعد أن فرغ (مل) من إثبات شطر حجته الأول: عدم ادعاء العصمة في حمل الفرد على حق أو منفعة، انتقل إلى الشطر الثاني منها - وهو خطر إخماد رأي الفرد ولو كان خطأ - إذ أن منع المناقشة منعاً باتاً أمر ضار ومستحيل - خصوصاً في المباحث المتعارضة الآراء - ولضرورة دراسة حجة الخصم وتفهيمه علة خطئه ليتثقف عقله، بعد أن نسمعها منه بنزاهة وصدق رغبة، بلا تحيز ولا محاباة، أو تفريق بين عام وخاص. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإن تقييد المناقشة يتعدى أثره الخمود العقلي إلى خمود المعاني الأخلاقية في العقائد موضوع المناقشة - بما يجعل منها ألفاظاً منسية جوفاء - وإلى جمود العقائد والأقطار ذاتها بعد أن تصبح تقليداً محافظاً مستقراً، اطمأن عليه حماته ونام عنه خصومه، وهذا التحجر في العقائد - دينية أو غير دينية - يجعل منها رسوماً وطقوساً أولى منها معاني جميلة وعقائد. فلا بد من الخلاف والمناقشة حتى نصل إلى الحقائق اليقينية التي تعين على رقي النوع البشري، ولا بد من تهيئة الوسائل التي تثير هذا النقاش المستمر حول الحقائق حتى لا تموت باستقرارها، ولا بد أخيراً أن نكمل جزء اليقين الذي في آرائنا بيقين آراء معارضينا. وأن نشفع نزعة المحافظة دائماً بنزعة مساوقة إلى التقدم والإصلاح في سياستنا.