وحتى هذا القدر لن نصل إليه بالتقييد والتحريم، بل بإفساح مجال الدرس والمباحثة، فنصلح تفكيرنا، ونقوي في الوقت نفسه حجة الشيء ذاته، إذ أن دعامة الثقة بشيء إنما تقوم في قدرته على تحدي خصومه للمبارزة، فإن لم يكن له معارض، أو كان له معارض سقطت حجته في الميدان؛ فقد حكم له بقربه من الصواب.
وكما أنه لا يجوز حمل الناس على غير ما يريدون بادعاء العصمة في أنفسنا وفيما نريدهم عليه، حتى ولو كان معنا الإجماع؛ ما دام من الممكن أن يكونوا هم على حق، وما دمنا لم نفسح المجال لنتبين خطأ الأمر من صوابه في مناقشات حرة؛ كذلك ليس لن أن نحملهم عليه بحجة المنفعة، أو بدعوى الفائدة للمجتمع أو أية ذريعة أخرى، فما دمنا لم نسمع رأي الفريق المعارض، ولو كان نفراً قليلا لا نجزم بأن المنفعة في جانبه أو في جانبنا، فالمشكلة باقية لم تحل، ولم نزل ندعي العصمة في أنفسنا - ونرمي معارضينا بالخطأ - في تعرف النفع كما ادعيناها من قبل في الاهتداء إلى الحق.
فنحن حين نقيد حرية الرأي في الأفراد إنما نحملهم على اتباع رأينا، ونسوقهم إليه باسم الإجماع على الحق حيناً، ومنفعة المجتمع حيناً آخر - مما يحمل في طيه ادعاء العصمة من الفساد في آرائنا - والعصمة من الصواب في معارضينا، وليست الحقيقة - كما قلنا - بحيث نتعرفها بهذه السهولة، بل لا بد للوصول إلى بعض اليقين من حرية مناقشة واسعة النطاق، حتى في أخص مسائل الحياة كالدين وحسب البشرية ما ترتب على العصب الديني والطائفي والكنسي من اضطهادات ومظالم وشهداء - يتوسع (مل) في الاستشهاد بها - ليس ينهض عذراً لها ما يقال من ضرورة اجتياز الحق لهذه المحن، فإن في إتيان هذه الفظائع قضاء على التجديد والإحسان والعمل على ترقية الجنس البشري. وفضلا عن أن الاضطهاد يزهق الحق ويخفيه ويعوق انتشاره، وينزل بدعاته العذاب، فإنه يقتل الشجاعة الأدبية ويصادر حرية الفكر، وجرأة الحق، ويعوق نمو السلطات وانتشار ثمرات الإبداع في حينها، ويؤدي إلى تستر المفكرين وذلتهم وسعيهم لتملق عواطف المجتمع بدلا من البحث عن الحقيقة. ومع هذا فالحق لا بد يوماً أن يظهر ويبهرنا ضوءه فنضطر متأخرين إلى الإيمان به - بعد إذ أسأنا إلى أصحابه وعذبناهم - وبعد أن لم نسلم من الثورات الفكرية التي يولدها الضغط والتقييد.