للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والصناع، لا تكاد تجمع بينهم جامعة صالحة إلا جامعة الدين والوطن. وكانت مشاكل الأسرة لا تقف عند حد، وادعاءات الطوائف لا تعرف هوادة. وكثر أدعياء العلم والأب، ومحترفو الزهد والورع. وكادت الرشوة والسعي بها إلى المناصب تصبح قانوناً منظماً. وذاعت السرقات الأدبية في غير مبالاة. وانتشر الزنى واللواط والتسري بالغلمان. . . وشرب الخمر وتعاطي الحشيش، إلى غير ذلك من مفاسد شائعة ذائعة.

نظر الشعراء إلى كل ذلك فنقدوه وحملوا عليه، وخلدوا عنه في التاريخ صفحة لا تلين ولا تمين. ولسائل أن يقول لم أهتم الشعراء كل هذا الاهتمام بنقد مجتمعهم، ولم ينصرفوا عنه انصراف سواهم راضين منه بالعافية والسلامة؟ نعتقد أن في مقدمة أسباب هذا أن العصر بحكامه وشعبه جهل مكانتهم ونكر منزلتهم وأن الثراء عن طريق القريض كان قد صوح زمانه، وضوى ينعه وريعانه، فلا سلطان يسخو ولا أمير يجود. لهذا قاسى الشعراء مع ألم النكران مرارة الحرمان. فأحقد ذلك نفوسهم وأحنقها، وأثار خواطرهم وأقلقها، والمحروم واجد النفس مفتوح العين على الثغرات يرى منها ما لا يراه سواه. . . ثم هم أمنوا المغبة واطمأنوا إلى العاقبة، وذلك لأن الحكام أعاجم بالفطرة لا يفهمون من الشعر إلا أثارة. وهم عن مساقط الشعراء مشغولون بحروبهم في الخارج أو فتنتهم في الداخل، ثم هم بين هذه وتلك يخبون في نعيم وارف وترف فياض، يحجب عن أسماعهم شكوى المحروم وأنة المكلوم ودعاء المظلوم - كان الشعراء إذن في حرية رافهة وأمن واسع، وانطلقوا من كل قيد يخشاه الأديب على نفسه حتى قيود المجاملة والرياء، وثارت ثائرة بعضهم حتى خلط في حديثه بين النقد والهجاء

ولو قد وجدا في الشعب مستجيباً وملبياً لكان لنقدهم أثر حميد وعاقبة نافعة، وفعل رشيد.

ولا يهولن القارئ - إذا ما عرضنا عليه نماذج النقد - ما يراه فيها أو في بعضها من نزول في مستوى أسلوبه، وبخاصة إذا قاسه بما درس من شعر أندادهم في عصور كانت فيها الملكات العربية لا تزال على مجادتها أو في عصور التقت فيها الثقافات ولفحت العقول وكرمت المغريات على القول.

ويطالعنا في أول ما نسوقه، نقد شرف الدين البوصيري (٦٩٥هـ). كان البوصيري حسن السيرة صادق السريرة وظف في مطالع حياته في دواوين الدولة كاتباً، فرأى من عبث

<<  <  ج:
ص:  >  >>