الصحيح، ومثنية بعد بالطبيعيات وما يتعلق بها من رياضيات وحساب وهيئة وموسيقى، ومختتمة في النهاية بما بعد الطبيعة أو العلم الإلهي كما سماه الإسلاميون ملحقين به الحديث عن النبوة والمعاد والخلاص من الدنيا، تجد هذه الفلسفة الأرسطية في معظمها في أهم كتب ابن سينا الأولى (كالمجموع)(الشفاء) ومختصره (النجاة) وفي رسالته في النفس التي كتبها إلى الأمير نوح بن منصور والتي تشبه أن تكون تعريباً لكتاب أرسطو (في التنفس).
أما الكتاب الذي بين أيديكم فهو من نوع مخالف لنوع هذه الكتب: وهو يمثل الفلسفة المشرقية في تمام نضجها عند ابن سينا وغيره، تلك الفلسفة التي لا تأخذ عن أرسطو إلا بمقدار ما تأخذ عن أفلاطون وأفلوطين والمتكلمين والصوفية من الإسلاميين والفرس، مكونة من هذه في جملتها مذهباً خاصاً، وروحاً جديدة، فيها طرافة وفيها عمق وإمتاع هي بعض ما يتميز به كتاب (الإشارات والتنبيهات) لأبي علي الحسين ابن عبد الله بن سينا.
ولعل الظروف التي أحاطت بتأليف هذا الكتاب قد هيأت له أن يكون على هذه الصورة من العمق والجلال: فهو لم يكتبه استجابة لطلب أصحابه أو أميره كما ترى في سائر كتبه إنما كتبه وهو سجين بقلعة (فردجان) حين اتهم بأنه يكاتب سراً علاء الدولة أمير أصفهان. ويصف هو محنة السجن هذه التي كتب أثناءها هذا الكتاب بقوله في آخر صفحة من إشاراته: رقمت معظمها في حال صعب لا يمكن أصعب منها حال، ورسمت أغلبها في مدة كدورة بال، بل في أزمة يكون كل منها ظرفاً لغصة وعذاب أليم. . . ما مضى وقت ليس عيني فيه مقطراً. ولا بالي مكدراً. . . الخ ص١٤٥ حـ٢) كما إن سجنه عند الإسماعيلية (الباطنية) هؤلاء قد جعله يذهب مذهبهم في التستر والإخفاء، والضن بكتابه ذاك على من لم يؤت الفطنة أو الدربة، أو كان من الجاهلين المبتذلين، والملاحدة المكابرين؛ وفي التوصية بالحرص على تخير من يهدي إليهم في هذا الكتاب واختبارهم، صوناً لهذا العلم من الضياع - كما نبه على ذلك في آخر الكتاب (ص١٤٣ - ١٤٤ حـ٢) وكرر ذلك التنبيه في أوله (ص٢ حـ١) بشروط واختبارات خاصة، نرجو أن تتوافر كلها لطلاب المسابقة حتى يتهيأ لهم أن يقفوا على حقيقة هذا الكتاب.
وكما يتضح من أول كلمة للشيخ أبي علي في كتابه: الإشارات إنما تشعر إلى الأصول - والتنبيهات تنبه على الجمل، هذه تتعلق بالمبادئ العامة، وتلك بالقضايا الخاصة، والذي