الذي أفراده زيد وعمرو من الناس - الواحد منها محسوس، له وضع ومقدار وأين وكيف، ومن هذا المحسوس يأتي معنى الإنسان المجرد من الكم والكيف والأين والوضع الذي هو الإنسان الحقيقي - والمعنى الكلي للإنسان من حيث هو حيوان ناطق.
فإن قيل إن هذا الإنسان بالمعنى الكلي الثاني موجود في العقل لا في الخارج، ونحن نقصد الوجود الخارجي لا الذهني؛ قلنا إن معنى الإنسانية لا يوجد في الذهن إلا مقترناً بالإنسان الواقعي المحسوس المشترك في التصور العقلي المجرد لكلمة إنسان. وسقط بذلك الاعتراض.
وإن قيل إن للإنسان هنا كفرد تصوراً ذهنياً كلياً من حيث هو يتركب من أعضاء كثيرة مختلفة يشتمل عليها مفهوم كلمة (إنسان) بالمعنى الفردي، قلنا إنه يسهل دفع هذا الاعتراض بتصور نفس الحال في كل عضو من أعضاء الإنسان أي أن يكون لكل منها وجوده في الذهن كلياً مجرداً فضلاً عن وجوده في الواقع والحقيقة.
وحجة أخرى تلزم أولئك الذين لا يعترفون بوجود إلا للحسي من الأشياء، والموهوم من الموجودات، هي أنه عن المحسوسات يأتي الحس، وعن الموهوم ينشأ الوهم، وهي ليست أموراً حسية، فإن أنكروها وجب أن ينكروا ما يتعلق بها والعقل الذي يحكم عليها ويميز بينها، دون أن يكون محسوساً ولا موهوماً هو الآخر. وقل مثل ذلك في طبائع الأمور المدركة بالوهم كالعشق والخجل، والشجاعة والجبن - التي ليست تدرك بالحس، وإن تعلقت بالمحسوس والموهوم من الأشياء. والنتيجة التي يخلص منها الشيخ الرئيس بعد إدحاض هذه الأوهام ودفع ما يعترض به عليها - أن كل موجود فإن له ماهية مجردة عن كل مشخصاته الحسية - هي التي يتحقق بها وجوده، وإن لم تكن محسوسة ولا موهومة.
ذلك أن الشيء إنما يتحقق وجوده بإحدى اثنتين: إما بماهيته وحقيقته كالمثلث من حيث هو سطح وأضلاع تحيط به وتحدده - أي من حيث مادة المثلث والصورة الناشئة له من مجموع هذه المادة أي المثلث بالقوة والمثلث بالفعل وإما بوجود ذاته من حيث موجده أو المؤثر في حدوثه، وما لأجله وجد - أي من حيث فاعله، ومن حيث غاية وجوده، وعلل الوجود الأربعة هي إذن قسمان: علتا الماهية، وعلتا الوجود، الأوليان منها هما: العلة المادية والعلة الصورية وعلتا الوجود هما العلة الفاعلة أو علة الفاعلية والعلة الغانية