واستحضرت تلك الصور، فأشعر بقلبي يذوب، وبجسمي ينحل، وبنفسي تسّاقط حسرات على مجهول لا أعرفه ومطلوب لا أناله. وفي أكثر أيام الآحاد كانت إحدى قريباتي تجيء إلى المدرسة فتستأذن لي في الخروج وتذهب بي إلى دور السينما فأرى أحاديث رفيقاتي وأمانيّ نفسي مصورة على الشاشة بالألوان الفاتنة والأوضاع المغوية، فينماع جَلدي كما ينماع الثلج، ويذوب صبري كما يذوب الشمع، وأتمنى لو لم تكن معي قريبتي، أو كانت قريبتي في سن رفيقتي! ثم استشعر الحزن الممض والهم المبرح كلما تذكرت أني سأعود وحدي إلى الغرفة الموحشة والفراش القلق.
وأخيراً تركت حياة المدرسة وجو القاهرة، إلى حياة العزبة وجو الريف. جئت هذه العزبة التي وصفتها لك من قبل وفي ذاكرتي أجناس من أحاديث الهوى، وفي حقيبتي أكداس من قصص الحب. فاتخذت من قمرية الحديقة محراباً لكيوبيد أؤدي فيه صلواتي، وأتقرب إليه بنزواتي وصبواتي، والروايات الماجنة تثير عواطفي، والمجلات الخليعة تلهب مشاعري، والرغبات الجامحة تملأ فراغي، وليس بجانبي أم ترشد، ولا بين جوانبي عقيدة تهدي؛ فأنا أعيش في دنيا القصص أقاسم بطلاتها قطوف اللذة، وأساقي أبطالها كؤوس الصبابة، فإذا سأمت القراءة وأجمت الذكرى سيلت همي برؤية حمامة تلاطف حمامة، أو قط يسافد قطة، أو فلاح يداعب فلاحة، حتى ضاق وسعي بما أختزن من ذكريات أمسي ورغبات يومي، فأردت أن أجد لي متنفساً بالكتابة، ولكن الكتابة لم تردّ عليّ، لأنها مني وعني وإليّ. أريد أن أكون موضوعاً لمقالة أو حديثاً لرسالة أو عروساً لقصة؛ ولا يمكن أن أكون شيئاً من ذلك إلا إذا عشقني كاتب. فالكاتب وحده هو الذي يستطيع أن يحب من بعيد! يستطيع بفنه الخالق وخياله المبدع أن يعايش من يحب روحاً لروح، فيقابله من غير لُقية، ويحادثه من غير رؤية، ويرسل إليه الكتاب فيكون هو اليوم الموعود واللقاء منتظر والحديث المشتهى والأمل المرجو والوداع والمتوقع! ولقد اخترتك لتكون حبيبي النائي، تصف مني ما وصفت من (حياة) و (ليلى)، وتترجم عني ما ترجمت عن (شرلوت) وجوليا. وليس في منطق الحب أن أقول اخترت فتختار، أو أردتُ فتريد. إن سلطان الحب طاغ لا يخضع لاختيار ولا يخشع لإرادة. وكيف يتسنى لنا أن بتحابّ ونحن لا نتراءى؟ لو كنت أملك رؤيتك لأمكن أن يأسرك جمالي، أو لو كنت أحسن الكتابة لجاز أن يسحرك خيالي. إنما هو