للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

البغضاء، وصرف وجوه الناس عن أسباب الحياة إلى معترك الحرب؟ كانت تريد في المدينة مثلاً أن تسقط البلاد في أيديهم خالصة لهم، بعد أن يتفانى الأوس والخزرج في حروبهم التي يؤرّثونها بينهم، كما رأيت ذلك من فعلهم يوم رأى شأس بن قيس اليهودي ما رأى من صلاح ذات البين بين الأوس والخزرج بالإسلام، فيرسل إليهم فتى من يهود يناشدهم ما تقاولوا من الشعر في حروبهم، فتكاد الحرب تقع بين الأوس المسلمين والخزرج المسلمين، لولا أن أدركهم رسول الله فردّهم إلى عقولهم وأطفأ كيد اليهودي شأس بن قيس. ومن قارن بين فعل يهود قديماً وفعلهم حديثاً في فلسطين، ومن إقامتهم الحصون والآطام والمدن في المدينة وغيرها من الجزيرة، وما فعلوا من إنشاء المدن والحصون والمستعمرات حديثاً في فلسطين، عرف أن هذه شيمة يهود منذ قديم، وهذا هو أسلوبهم قديماً وحديثاً حذوك النعل بالنعل. وإذن فقد كانت تريد يهود أن تنشئ دولة في المدينة شمالاً وفي اليمن جنوباً كما تريد اليوم أن تنشئ دولة لليهود في فلسطين، وفي غير فلسطين أيضاً.

هكذا كان أمرهم في الجاهلية، ثم يرسل الله رسوله ويهاجر إلى المدينة فلا يكاد يفعل حتى يمتلئ تاريخ الإسلام منذ ذلك اليوم بأخبار اليهود وفتنتهم وتأريثهم العداوة بين العرب المشركين والعرب المؤمنين، وبسعايتهم في تأليب الأحزاب على رسول الله، وبغدرهم ونكثهم ودسائسهم، لم يكفوا ساعة عن التماس غرة المؤمنين والمؤمنات، وعن ابتغاء الوقيعة بين المؤمنين أنفسهم. ويمتلئ تاريخ الإسلام منذ ذلك اليوم أيضاً بأخبار المنافقين، وقد أجاد الله لنا صفتهم في كتابه، وبين لنا أحسن البيان صلتهم باليهود وإيواء اليهود لهم، ويكثر ما نزل من الآيات في شأن اليهود والمنافقين جميعاً، مقرون ذكرهما معاً. وتكون أول سورة نزلت من القرآن في المدينة هي السورة التي تذكر فيها (البقرة)، يقول الطبري في تفسيره ج١ ص٨٤ بإسناده عن ابن عباس: (إن صدر سورة البقرة إلى المئة منها نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ومن المنافقين من الأوس والخزرج، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم). ثم ماذا؟ ثم تكون آخر سورة نزلت بالمدينة، أو آخر سورة نزلت من القرآن، هي سورة (براءة) أو سورة (التوبة)، تلك السورة التي فضحت اليهود والمنافقين وهتكت عن سرائرهم، وكشفت عما كانوا يبيتون من القول ومن الكيد،

<<  <  ج:
ص:  >  >>