كلا أيها العلماء! إنها آخر كلمة تكلم بها رسول الله وهو معرض عن الدنيا مقبل على الآخرة، آخر كلمة ينطق بها لسان نبي الله الذي لا ينطق عن الهوى. كلا فالأمر أعظم وأجل وأخطر مما تظنون. إنها كلمة من كلمات النبوة! إنها تنبيه من الله على لسان نبيه إلى أحداث ستكون، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً. لقد كشف الغطاء وتتجلى لرسول الله غيب ما سيكون، فرآه وهو على فراش الموت كما رآه المؤمنون عياناً من بعد: فتنة ماحقة في الحجاز وما جاورها، وفي نجران وما أطاف بها. نار مشعلة فيما حول المدينة من الحجاز، وأخرى مستعرة فيما حول نجران من اليمن. إنه يقولها صلى الله عليه وسلم لا لشيء كان بل لشيء سيكون، يراه هو ولا يراه أصحابه رضي الله عنهم.
ولقد نزل الموت برسول الله صلى الله عليه وسلم كأشد ما ينزل حتى دعا بقدح من ماء، يدخل يده فيه ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول:(اللهم أعني على سكرات الموت. الله أعني على كرب الموت. ادن مني يا جبريل! ادن مني يا جبريل! ادن مني يا جبريل!) وعنده صلى الله عليه وسلم خميصة (ثوب من خز) يأخذها فيلقيها على وجهه، حتى إذا اغتمّ بها وضاق ألقاها عن وجهه وهو يقول (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ويقول أيضاً: (لئن بقيت لا أدع بجزيرة العرب دينين، وتكون آخر كلمة يتكلم بها وهو في مثل ما ترى من كرب الموت: (أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب): أي أدركوا النار قبل أن تشتعل، أنقذوا العرب من فتن لا تبقي ولا تذر! أحذروا يهود الحجاز، وأحذروا أهل نجران خذوا عليهم طريق الفتنة وأخرجوهم قبل أن يخرجوكم ويسفكوا دماءكم أيتها العصابة القليلة المؤمنة! ويقبض الله إليه نبيه قبل أن يقول لهم في هذا الأمر قولاً لا يضلون بعده، وتبقى هذه الكلمة بغير تفسير حتى يقول العلماء في سرها ما قالوا رجماً بالغيب.
ثم ماذا؟ ثم لا تكاد تتم بيعة أبي بكر حتى تنفجر الردة في أماكن بعينها من جزيرة العرب، فتقول عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين قولاً يروى لنا، لم يلق إليه أحد بالاً إلى يوم الناس هذا: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بأب ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها! اشرأب النفاق بالمدينة وارتدت العرب وصار أصحاب محمد كأنهم