للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فيك، ويذوب ولا يرى مساكه إلا بك! كان يقنعني منك أن تحبني بالكلام حتى لا تظل موجة حبي حائرة في الفضاء لا تجد جهاز استقبال ولا أُذن مستمع! لقد تركني بسكوتك عني أشبه بالمصوّت في المغارة لا يسمع غير الصدى، أو المنقطع في المفازة لا يجد غير السكون! أريد أن أعرف هذا المجهول وأستدني ذلك البعيد! يخيل إلي أحياناً أنه يناديني في زفيف الريح، أو يقبلني في انعطاف الغصن، أو يعانقني في لين الفراش، فأرهف أذني، أو أعرض خدي، أو أنصب صدري، فلا أحس وا لهفتاه إلا الرهبة والعزلة والفراغ! دعني أبحث عنه في كل مكان، وأتصوره في كل إنسان، ما دمت لا ترسله إلي بالبريد!

دخلت الإسطبل ذات صباح فرأيت الحلاّبة تحلب إحدى الجواميس، فطاب لي أن أرى هذا المنظر، وقام بي أن أجرب هذا العمل، فأخذت الوعاء من فوق ركبة الحلابة، وجلست القرفصاء تحت بطن الجاموسة، وقبضت بيمناي على حلمة من حلمات الضرع وجذبتها إلي فشخب اللبن حاراً في يدي. ولذّ لي لسبب لا أدريه أن أمعن في غمز الحلمة وعصر الضرع الحلب اللبن، شخباً في الإناء وشخباً في الأرض، وقد دب في بدني رعشة خفيفة، وسرى في دمي نشوة لطيفة، وجرى في نفسي إلى الرجل المشتَهى نزعة قوية! ولا أدري ما الذي ربط في ذهني بين حلب اللبن وشهوة الحب، ولا بين رؤية الجاموسة وذكرى الحبيب. ولكن ذلك كان وإن جهلت كيف كان. ولا يزال الشوق إلى هذه اللذة يعاودني فأذهب إلى الإسطبل في الصباح والمساء، حتى غدوت أبرع من يحلب في العزبة من الرجال والنساء!

ماذا تصنع الفتاة الوحِدة يا (حبيبي) لتهدئ قلبها الثائر، وترضي هواها الطموح، وتملأ فراغها الموحش؟ أخي لا يترك الدوار ولا يتكلم إلا في الزرع والضرع، وزوجه لا تفارق الدار ولا تتكلم إلا في الطهي والغسل، وأنت لا تدع الصمت ولا تتكلم إن تكلمت إلا في الفضيلة والفضل! أما الكلام الذي يمتزج بالنفس ويأتلف مع الشعور فلا أسمعه إلا في هتاف حمامة لإلفها، أو حمحمة فرس لسائسها، أو غمغمة بقرة لولدها، أو تحية ابن البستاني لي وهو ذاهب إلى الحديقة أو عائد منها. وابن البستاني فتى ريان الشباب، وثيق التركيب، على وجهه وسامة، وفي عينيه ملاحة، وعلى شفتيه جاذبية. يجيء أباه في أكثر الأيام ليعاونه في أعمال الحديقة؛ فكنت كلما رأيته تمنيت أن أديم النظر إليه وأطيل الحديث

<<  <  ج:
ص:  >  >>