للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

معه؛ ولكن الفروق الاجتماعية التي بيني وبينه كانت تكسر من طرْفه وتعقل من لسانه فلا ينظر إلا خُلسة ولا يتكلم إلا جمجمة. دعوته ذات مرة ليقطف لي رمانة لم تصل إليها يدي ولا مجناتي؛ فلما قطفها وقدمها إلي وقف ينتظر أمراً آخر؛ فقلت له بعد أن جسست بعيني نوافذ الدار ومماشي الحديقة: تعال معي نقطف باقة من الزهر، ونجن سلة من الثمر. فمشى الفتى بجانبي على استحياء وحذر، فأردت أن أزيل احتشامه فسألته في لهجة تسيل أنوثة وعذوبة: أمتزوج أنت أم خاطب؟ فقال والخجل يضرج محياه: خطبوا لي يا سيدتي ابنة الخولي، وستزفّ إلي في موسم القصب. فقلت له ضاحكة: إذن سيكون شهر العسل عظيماً! فنظر الصعيدي إلي مبهوتاً كأنه لم يدرك النكتة ولم يفهم الجملة! فقلت له: وماذا تقول لفتاتك إذا خلوت بها؟ فأجاب الفتى في حرج ودهشة: وكيف أخلو بها قبل الزفاف يا سيدتي؟ إني أراها في الحقل أو أقابلها في الطريق أو ألمحها في البيت، فتغض هي من طرفها، وأشيح أنا بوجهي، لكي لا تتلاقى النظرتان فنأمن مقالة السوء ونضمن دوام الخطبة. فقلت له وأنا أعبر بصوتي الممطوط عن الرثاء والشفقة: مساكين! إن الخطبة عند المتمدنين تدريب وتجريب ومتعة. تدريب على الزوجية بالفعل، وتجريب للشخصية بالخبرة، ومتعة للنفس بالرقص والرياضة والرحلة. إذا كانت خطيبتك بخراء فكيف تعرفها بغير القبل؟ وإذا كانت مصنَّة فكيف تكشفها بغير العناق؟ وإذا كانت مذياعة فكيف تمتحنها بغير الائتمان على (سر)؟ سأمثل معك دور الخطيبة الحبيبة رحمةً بك وحناناً عليك، وسأعلمك ما ينبغي أن تعمل، وألقنك ما يجب أن تقول. وفي ظل شجرة غيناء من شجر التفاح أخرجت منديلي الرقيق فمسحت به ملاغم الفتى؛ ثم جذبت بيديّ جانبي رأسه، ودسست شفتيّ في زاوية فمه؛ ثم وثّقت القبلة وعمقتها وطوّلتها وعرّضتها، وكان الشاب قد صدمته المفاجأة فتصلب أولاً ثم استرخى، وأردت أن انزع فمي من فمه فاستعصى؛ ورفعت بصري إلى أعلى الشجرة فرأيت أفعى (حواء) بجانب التفاحة تريد أن تسقطها إليّ، ففرت مذعورة ففرت مذعورة إلى المنزل. وفي اليوم التالي عدت إلى التعليم وعاد. وفي اليوم التالي عدت إلى التعليم وعاد إلى التعلم. وكان الفتى في هذا اليوم على غير عادته نظيف الوجه جديد الثياب جرئ القلب، فأطلنا الدرس وشفينا النفس وشققنا الحديث. وتعاقبت الأيام على هذه الحال الراضية، فسكت في رأسي صوت كان لا يفتر عن

<<  <  ج:
ص:  >  >>