الرزانة والاحتشام، مبدعة أحياناً ومسفة غاية الإسفاف أحياناً أخرى. وقدحفظ لنا بعض الشهود والرواة شيئاً مما كان يدور في أمثال هذه المجالس الخاصة التي كان يقصدها رهط هؤلاء وجلهم ممن جبل على هذه الجبلة، الدعابة والمرح والتحلل، والاستهتار بكل شئ وبالكذب على الماضي والحاضر إن احتاج الأمر لذلك، فكانوا يضعون ويقولون ويتنادمون ويتقارضون الشعر ساعات طويلة من ليل أو نهار
وعلى الرغم مما عرف عن هذه الطبقة من العبث والابتعاد عن حياة الجد، كانوا في جملتهم أصحاب علم بلغة العرب واطلاع على مذاهب الشعر في الجاهلية والإسلام، ووقوف على أسرار اللسان. مثل حماد الراوية الذي (كان من أعلم الناس بأيام العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها) والذي قال عنه بعض الرواة (إنه قد أفسد الشعر لأنه كان رجلاً يقدر على صنعتهفيدس في شعر كل رجل ما يشكل طريقته فاختلط لذلك الصحيح بالسقيم) ومثل حماد عجرد وكان نفسه من الشعراء المجيدين، وقد أزعج بشار بن برد الشاعر بأهاجيه الفاحشة وبالمعاني الغريبة المبتكرة التي كان يأتي بها في هجاء ذلك الشاعر السليط الذي كان يخشى الناس لسانه ويرجون من الابتعاد عنه السلامة. ومثل ابن المقفع وغيرهم ممن ذكرنا.
وحماد الراوية هو أبو القاسم حماد بن ميسرة أو ابن أبي ليلى سابور بن عبيد الديلمي الكوفي مولى بني بكر بن وائل أو مكنف ابن زيد خبارها الخيل الطائي وكان زعيم أهل الكوفة في الرواية وحفظ الأشعار كما كان خلف الأحمر وهو من هذه الطبقة ومن هذا الطراز زعيم أهل البصرة في الرواية وحفظ الشعر أيضاً. وكان من المقدمين لدى نبي أمية ولاسيما عند (الوليد بن يزيد) الذي عرف بالميل إلى الشعر والشعراء وبالإغداق عليهم وعلى الأخص على أمثال هؤلاء الشعراء. ويظهر أنه لم يكن من المرغوب فيهم عند بني العباس.
ويظهر أن الرجل كان ذكياً جداً غير أنه لم يكن يحسن الاستفادة من ذلك الذكاء. وأنه لم يتمكن من استغلال مواهبه والقابليات التي كانت عنده. وأنه كان يبالغ في الدعاية لنفسه. فكان يشيد دائماً بمقدار ما كان يحفظ، حتى غلبت عليه الرواية وعُرف بين الناس بحماد الراوية. وقد اضطرته المواقف على الانتحال والوضع لكي يتفوق على خصومه ويثبت