جعل شرطاً لجواز التعدد هو العدل المستطاع ليتعارض هذا النص مع قوله تعالى (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) ولكان في ذلك إشكال شديد يضطرب له قلب المسلم وتصطرع فيه ذمة من يريد السير على مقتضى شريعة الله القائمة؛ إذ كيف يأمر سبحانه بالاقتصار على الواحدة عند خوف عدم العدل، ومع حكمه بتحقق هذا الخوف حتماً لعدم إمكان العدل يسقط عمل مقتضى هذا الحكم فيجعل الرجل حراً في تعديد الزوجات بشرط مراعاة (العدل المستطاع) بينهن؟ إن هذا يستلزم أن قوله تعالى:(فلا تميلوا) ناسخ لقوله: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) ولا يجرؤ أحد أن يقول بهذا النسخ.
والحقيقة أن الأمر أيسر من ذلك، فلا تعارض بين النصين ولا حاجة إلى القول بالنسخ، وما الإشكال الذي بدا لمعالي الباشا شديداً إلا نتيجة لأخذه جزء الدعوى في الدليل مما يعتبر مصادرة على المطلوب وهي من مفسدات الدليل كما هو معلوم. فدعوى معاليه - فيما استقر عليه رأيه أخيراً - ذات شقين: الأول أن العدل الوارد في النصين واحد وهو العدل المطلق، والثاني أن العدل المستطاع المعبر عنه بقوله تعالى (فلا تميلوا كل الميل فتذروها) هو مجرد حكم وقتي خاص بالزوجات الموجودات وقت نزول هذه النصوص. ومعاليه أقام دليله على أساس ثبوت الشق الأول مع أن الدعوى بشقيها هي محل النقاش وهو في مقام الاستدلال لها. فقد استدل إذن على الدعوى بالدعوى نفسها وهذا باطل.
٨ - أدلة العنصر الثالث. الواقع أن هذا العنصر من رأي معالي الباشا الذي اضطر إلى تكلفه - كما قدمنا في التمهيد - دفعاً لما استشعره من تضارب ظاهر بين تأويله للآيتين وركه تشوب النظم الحكيم نتيجة لهذا التأويل، لم يقمه على سند من دليل عقلي أو نقلي، وإنما افترض افتراضاً حالة محنة وقع فيها المسلمون لما نزلت الآية مقتضية بجملتها - فيما يرى معاليه - تحريم التعدد، وإن المسلمين هلعوا وجأروا هم والنبي إلى الله متململين من هذه المحنة الراهنة، فلطف بهم فبين مراده بأن أنزل قوله (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) لا تنظيماً للمستقبل الأدبي كما يقولون (أي كما يقول أصحاب الرأي المخالف لرأي معاليه) بل تنظيماً للحالة الوقتية الناشئة عن تلك المحنة التي وجدها المسلمون حائفة بهم، وهي حالة الزوجات المتعددات الموجودات فعلاً عند نزول هذا القول. . . ما الدليل على وقوع المسلمين في مثل هذه المحنة وجأرهم هم والنبي بالشكوى، وإن الآية الثانية