كان ابن أبي عامر يتخذ أشد التحوطات، فيحيط موكب الأمير حين يخترق شوارع قرطبة بصفوف كثيفة من الجند تمنع الشعب من رؤيته أو الاقتراب منه. وكان الحجر على هشام عماد ذلك الانقلاب العظيم الذي اعتزم ابن أبي عامر أن يحدثه في نظم الدولة لتمكين سلطانه وطغيانه وجمع سلطات الخلافة كلها في يده.
ولا يتسع المقام للإفاضة في شرح الوسائل والإجراءات المتعاقبة التي تذرع بها ابن أبي عامر لتحقيق مشروعه؛ ولكنا نقول فقط إنه سار إلى غايته بسرعة مدهشة، ولجأ في تحقيقها إلى أشد الوسائل؛ واستطاع بعزمه وصرامته وبراعته أن يستحق كل عقبة، وأن يروع كل منافس ومناوئ. وفي ذلك يقول لنا ابن خلدون:(ثم تجرد (أي ابن أبي عامر) لرؤساء الدولة ممن عانده وزاحمه، فمال عليهم، وحطهم عن مراتبهم، وقتل بعضهم ببعض، كل ذلك عن أمر هشام وخطه وتوقيعه حتى استأصل شأفتهم ومزق جموعهم). وكان أشد ما يخشى منافسة الحاجب جعفر، ودسائس الخصيان الصقالبة بالقصر؛ فبدأ بالتخلص من الصقالبة وحمل جعفر على نكبتهم وتشريدهم، فقتل منهم عدد كبير واعتقل الباقون أو شردوا؛ ولبث بعد ذلك حيناً يتربص بجعفر، ويحرض صبحاً عليه، وينوه كلما سنحت الفرص بقصوره وسوء تدبيره، ثم اعتقله أخيراً وأودعه السجن حتى مات؛ وجدّ بعد ذلك في مطاردة كل من يخشى بأسه من بني أمية أو غيرهم من زعماء القبائل، وسحق كل من يصلح للولاية والرآسة. وفي ذلك يقول ناقم منه:
أبنى أمية أين أقمار الدجى ... منكم وأين نجومها والكوكب
غابت أسود منكم عن غابها ... فلذاك حاز الملك هذا الثعلب
وعمد ابن أبي عامر إلى الجيش فنظمه من جديد ليؤكد عونه وإخلاصه، وأبعد عنه كل العناصر المريبة، وملأه بصفوف جديدة من البربر والمرتزقة؛ وفي سنة ثمان وستين وثلاثمائة أنشأ مدينة جديدة في ضاحية قرطبة على ضفة الوادي الكبير وسماها بالزاهرة، ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة والدواوين؛ وأنشأ له حرساً خاصاً من البربر والصقالبة؛ واتخذ سمة الملك، وتسمى بالحاجب المنصور، ونفذت الكتب والأوامر باسمه، وأمر بالدعاء له على المنابر، ونقش اسمه في السكة؛ وتم بذلك استئثاره بجميع السلطات والرسوم، ولم يبق من الخلافة الأموية سوى الاسم.