ماذا كان موقف صبح إزاء ذلك الانقلاب؟ لقد كانت أكبر عون لابن أبي عامر على إحداثه؛ وكان حبها المضطرم لذلك الرجل الذي ملك عليها كل مشاعرها وعقلها يدفعها دائماً إلى مؤازرته والإذعان لرأيه ووحيه؛ وكان إعجابها الشديد بمقدرته وتوفيقه يضاعف ثقتها به، ويعميها دائماً عن إدراك الغاية الخطرة التي يسعى إلى تحقيقها؛ هذا إذا لم نفترض أن تلك الفرنجية المضطرمة الجوانع كانت تذهب في حبها إلى حد الائتمار بولدها وتضحية حقوقه ومصالحه. والظاهر أن علائقها بابن أبي عامر، أو المنصور كما نسميه فيما بعد، انتهت بالخروج عن كل تحفظ، وغدت فضيحة قصر ذائعة، شهر بها مجتمع قرطبة وتناولها بلاذع التعليق والهجو؛ وظهرت في ذلك الحين قصائد وأناشيد شعبية كثيرة، في التشهير بحجر المنصور على هشام، وعلائقه بصبح. فمن ذلك ما قيل على لسان هشام في الشكوى من الحجر عليه:
أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعاً عليه؟
وتملك باسمه الدنيا جميعاً ... وما من ذاك شيء في يديه؟
ومن ذلك ما قيل في هشام وأمه صبح؛ وقاضيه ابن السليم:
اقترب الوعد وحان الهلاك ... وكل ما تحذره قد أتاك
خليفة يلعب في مكتب ... وأمه حبلى وقاض. . .
وهذه المقطوعات اللاذعة وأمثالها تعبر عن روح العصر، وتدل على ما كان يثيره موقف صبح وسمعتها من الحملات المرة. وتتفق الرواية الإسلامية في الإشارة إلى هذه العلائق الغرامية بين صبح والمنصور، وإن كانت تؤثر التحفظ والاحتشام؛ ولم نجد ما يعارضها سوى كلمة لكاتب مغربي يدافع فيها عن المنصور ويدفع عن صبح تهمة شغفها به، ويرمي أولئك الشعراء بالتحامل والكذب.
ولم يخمد جذوة هوى صبح زواج صاحبها المنصور، بل كان موقفها من هذا الزواج دليلاً جديداً على إخلاصها ووفائها، وكانت زوج المنصور أسماء ابنة غالب مولى الحكم وصاحب (مدينة سالم)، وهي فتاة بارعة الجمال والخلال؛ زفت إلى المنصور سنة ٣٧٦، في حفلات كانت مضرب الأمثال في البذخ والبهاء؛ ونظم الاحتفال في قصر الخليفة ذاته بإشراف الخليفة، وبعبارة أخرى بإشراف أمه صبح؛ وأغدقت صبح على العروس رائع