الحديث، أي حول التنافر بين الفرد ونفسه، وبين الفرد ومجتمعه. وابتدع في هذه شخصية (سلافان)، وهي شخصية لا تقل حياة ولا صدقاً ولا عمقاً عن شخصية (هملت) أو (دون كيشوت). وهي شخصية ذلك المثقف المرهف الحس الذي يلفظه المجتمع الحاضر، وتخنقه أوضاع الحياة التافهة العادية. على أن ديهامل لا يتخذ بطله من أولئك المثقفين ذوي الثقافة العالية المنظمة، ولا من أولئك المفكرين السحابيين الذين يعيشون في أبراج عاجية، وإنما هو رجل من عامة الشعب، لم ينل ما اصطلح الناس على تسميته بالثقافة العالية ولا الثقافة الثانوية، ولكنه قرأ كثيراً وفكر كثيراً. . يقول لصديق:(إنني فقير، وقد كنت فقيراً دائماً، فدرست كما يدرس الفقراء، أعني أنني درست دراسة فقيرة. وقد آلمني ذلك وبخاصة في السن التي يتألم فيها المرء لمثل هذه الأمور. ثم أخذت أثقف نفسي بنفسي، وعلى قدر استطاعتي، فأنا أعلم اليوم أكثر مما يعلمه غالبية البورجوازيين في مثل سني. ولكن الراجح أني لم أتعلم هذه الأشياء بطريقة منظمة، كما تقول. ومن ثم لا يعدني الناس مثقفاً، وأصدقك القول إنني مستني العدوى من أفكار الناس عني، فأصبحت أشك أنا أيضاً في ثقافتي. إنها لثقافة طيبة، لا تخلو من رسوخ وغنى، ولكنها ليست ثقافة (أصيلة). لا ضير! إنني مثابر على القراءة.
وهو يقضي سحابة نهاره في بعض تلك المكاتب التي تؤوي عشرات أو مئات من طبقته، يؤدون أعمالاً تافهة. وهو مشغوف بالموسيقى يعالج النفخ بالناي، ولكنه يقول عن نفسه:(والأمر المؤلم أنني لنقص الدربة والدراية والدرس أوقع بطريقة عاجزة صبيانية قطعاً أحسها إحساساً طيباً؛ إذ ينبغي أن أقول - لأكون عادلاً في الحكم على نفسي - إني مشغوف بالموسيقى، وإني أدين لها بأنبل مشاعري. ولكني حين أجاهد آلتي لا يبدو علي أنني أفهم شيئاً مما أرقعه، على حين أن أورين مثلاً - وهو ينفخ في الناي أيضاً - أورين هذا الذي لا يفهم شيئاً من الموسيقى، ولكن له أصابع متمرنة، يخيل إلي من يسمعه أنه مشبوب الوجدان).
وقد تسأل: لماذا جعل ديهامل بطله مثقفاً عامياً وفناناً عاجزاًن ولم يختره رجلاً ممتازاً في ثقافته أو فنه؟ ألا يكون في هذه الصورة الأخيرة أصدق تمثيلاً لمشكلة المثقفين في هذا العصر؟ ولكنني أذكرك بأمرين اثنين: أولهما أن ديهامل لا يعالج مشكلة المثقفين الممتازين