إنها قصة فريدة تتمثل فيها غيرة الفنان على فنه، وثورته على كل من يمس كرامة العبقري أو ينال من جلالها، ولو كان المعتدي هو البابا يوليوس الثاني. . .! قرأت هذه القصة وعجبت كيف يجرؤ مايكل انجلو على أن يقف من البابا موقفاً لا يستطيع أن يقفه ملك من ملوك أوربا في القرن السادس عشر! ولكنه الفنان. . . الفنان الذي كان يشعر في أعماق نفسه أن قداسة فنه لا تقل منزلة عن قداسة الكنيسة!
لقد ترامت إلى البابا أنباء العبقري الشاب الذي بهر فلورنسة بعظمة آثاره الفنية في الرسم والنحت، فأرسل يستدعيه ليزين جدران القصر البابوي وردهاته بمعجزات فنه الخالد. . . .
ومثل رجل الفن أمام الدين، وكان لقاء أفاض فيه البابا على الفنان كثيراً من عطفه وتشجيعه. . . وحين طلب أنجلو مائة ألف (سكودي) أجراً لعمله قال البابا: فلتكن مائتي ألف يا سيدي!. . . وبدأ الفنان العظيم يستلهم الوحي في صوره وتماثيله، ويبعث فيها الحياة تنبض في كل ناحية من نواحيها، مما جعل يوليوس يحله من نفسه مكاناً لا يدانيه مكان. ودب الحقد والحسد في نفوس رجال القصر لهذه المنزلة الرفيعة التي حظى بها أنجلو فوشوا به إلى البابا. . . ويفاجأ يوماً بأحدهم يقول له في لهجة لا تخلو من وقاحة:(سيدي، لدي أمر من قداسة البابا بطردك من قصره، ويحسن بك ألا تريه وجهك بعد اليوم!) وفي كبرياء العظيم يودع أنجلو آثاره الحبيبة وقصر البابا وروما ومن فيها، تاركا له رسالة يخاطبه فيها بقوله:(أيها الأب المقدس، لقد أمرت بطردي من قصرك، ويؤسفني أنك ستحتاج اليّ مرة أخرى، فإذا احتجت ألي - وهذا أمر ليس منه بد - فعليك أن تبحث عني في مكان آخر. . . غير روما!).
ويستشعر البابا فداحة الخسارة بعد رحيله، ويسأل عنه فيعلم أنه في فلورنسة، فلا يسعه إلا أن يبعث إلى حاكمها برسالة يطلب إليه فيها أن يقدم اعتذاره لأنجلو، وأن يرجوه في أمر العودة مرة أخرى. . . ويمتنع أنجلو. . . وتصل رسالة أخرى إلى البابا يؤكد فيها اعتذاره ويلح في إحضاره. ويمعن أنجلو في التغاضي وتصل رسالة ثالثة فيصر أنجلو على أن يلقاه البابا في منتصف الطريق بين روما وفلورنسة. . . وقد كان!!
هل تستطيع أن تعثر في العالم كله، وفي تاريخ الفن كله، على فنان من هذا الطراز؟ لا