ولقد اختص أبو الحسن دير العذارى بوده ومحبته؛ فقد رأى فيه من المتعة واللذاذة ما ليس فى غيره. فكان فيه معانة ومغداه؟ واليه مراحه ومأواه، وطالما جمعه بكثير من الشعراء والأدباء، فيتذاكرون ويتناشدون. وقد يغلبه السكر فيخرج على حال كريهة في المنظر والهيئة: فثيابه مبتلة، ورائحة الخمر تتقدمه، ثم هو يدافع عن نفسه في هذا الوضع البغيض، فيقول:
قالوا قميصك مغمور بآثار ... من المدامة والريحان والقار
فقلت من كان مأواه ومسكنه ... دير العذارى لدى حانوت الخمار
لم ينكر الناس فيه أن حلته ... خضراء كالروض أو حمراء كالنار
وعشاق الأدب يطربون لما تغني به جحظة في دير العذارى، فقد رسم لهم منظراً من مناظره الضاحكة فسمعوا صلصلة الناقوس ورأوا القسيس يترنح من السكر، ثم ينهض إلى القيام فيرتعش من الإدمان، ويغنى فتتقاطر دموعه على خده، وأخيراً يخلص إلى الحنين لهذا العهد فيقولك
ألا هل إلى دير العذارى ونظرة ... إلى الخير من قبل الممات سبيل
وقد نطق الناقوس بعد سكوته ... وشمعل قسيس ولاح فتيل
يريد انتصابا للقيام بزعمه ... ويرعشه الإدمان فهو يميل
يغنى وأسباب الصواب كمده ... وليس له فيما يقول عديل
(ألا هل إلى شم الحزامي ونظره ... إلى قرقري قبل الممات سبيل)
وثنى يغني وهو يلمس كأسه ... وأدمعه في وجنتيه تسيل
سيعرض عن ذكرى وتنسى مودتي ... ويحدث بعدي للخليل خليل
سقى الله عهداً لم تكن فيه علقة ... لهم، ولم ينكر على عذول
وأنا أعجب كيف عرج أبو الحسن على قسيس الدير فلم يتنقصه مع أنه كان يقع الجلسات الطويلة متحدثاً فيما يعرفه من علائق القسس بالراهبات، وكثيراً ما كان يغنى
بقول القائل:
أن بالحيرة قساً قد مجن ... فتن النساء فيه وأفتنن
هجر الإنجيل من حب الصبا ... ورأى الدنيا متاعاً فركن